مقاييس النيل في عهد الفراعنة
أوجد الفراعنة مقاييس نظامية في كثير من المناطق؛ للرجوع إليها في موازنة المياه وتوزيعها بين الأقاليم توزيعًا ثابتًا يفي بحالتها الطبيعية، وبنوا هذه المقاييس على نسبة اختبارية في فصول السنة كلها، لتكون هذه المقاييس ميزانًا صحيحًا، حتى إذا طرأت بعض العوارض في منطقة أمكنهم حصر ميزانيات الماء فيها، فلا يحدث من انحدارها القهري إخلال بالنظام يُؤذي المناطق المجاورة، وهذه الاختبارات تدلُّ على حذق وفطنة.
قال سترابون في كتابه بالفصل ١٧ العدد ١: «كان لدى قدماء المصريين مفتشون فنيون يجيبون الناس والحكام عن كل الملاحظات التي تُطلب منهم بتواريخ بدء الفيضان ونسبته؛ لأن لديهم علامات ثابتة «أي المقاييس» يرجعون إليها في معرفة ذلك قبل أوان الفيضان، وأنه يوجد بمدينة بيلاق مقياس يشبه مقياس مدينة ممفيس، والمقياس المبني من الحجر على شاطئ النيل هو عبارة عن بئر تتوازن فيه درجة المياه ارتفاعًا وانخفاضًا على مقدار مياه النهر، وقد نقشوا في جوانب البئر إشارات تدلُّ على درجات الفيضان في كل عام.» وقد أيدت الاكتشافات الأخيرة رأي هذا المؤرخ، وعثر علماء البعثة المصرية على مقياس مدينة بيلاق، وزاره جومار قبل ترميمه، وقال في وصفه ما يأتي: «يتألف هذا المقياس من سطح مربع، ومنه ينزل بسلم إلى ٨٥ درجة، وينقسم سطحه إلى ثلاثة أجزاء، وفيه باب يفتح إلى النيل لا يمكن النظر إليه إلا وقت انخفاض المياه، وجدرانه المتطرفة مبنية بقطع أفقية من الحجر الجرانيت، وقد صالت يد القدم على النقوش الهيروغليفية، ولم يبقَ من الآثار اليونانية فيه إلا النذر القليل.»
قال هليودور: «كان في مدينة سيين مقياس للنيل دقيق في الصنع والمزية الفنية في أوائل استعمارهم لمصر، فأقاموا فيها المعاقل والحصون لتحفظ الحدود الملاصقة لبلاد الحبش.» وإلى هذا يرجع رأي من قال: إن مقياس مدينة سيين هو المقياس الذي كان في مدينة بيلاق؛ لأن موقعيهما متقاربان جدًّا، ويسري إلى الظن الخطأ في الرواية أو نسبة كل مدينة منهما إلى اشتمالها على مقياس خاص لها.
ويوجد بين الآثار المحفوظة في المتحف البريطاني نصوص هيروغليفية، تثبت أن الملك سنوسرت الثالث صنع في السنة الثامنة من حكمه بعضَ إصلاحات في مقياس بيلاق خلاصتها: «في السنة الثامنة من الشهر الثالث من فصل الفيضان، في عهد ملك الوجهين البحري والقبلي سنوسرت الثالث المحبوب من ساتيت «معبودة مدينة بيلاق» الخالد الذكر، قد أمر وزيره أمني بعمل باب من مباني مقياس بيلاق …» إلخ.
وقد ذُكر مقياس النيل في كتاب الموتى، يقول الميت: «أيتها الدار كراو التي يقابلها النيل في أعلا تاتو، حيث يقاس النيل في ممره.»، ويقول الميت أيضًا في الفصل ١١٠ من كتاب الموتى: «قد وصلت إلى إقليم كبير وقت الفيضان»، ويتضح من هذه النصوص الدينية أن الميت يقصد مقياس النيل، ويعدُّ نفسه سعيدًا لكونه قاس الفيضان الذي يجعل مصر مخصبة بمحض الهبة الإلهية.
ونشر بروكش باشا نقوشًا يرجع تاريخها إلى عصر البطالسة، خاصة بمقياس النيل الكائن في مدينة بيلاق، ونصها: «متى خرج النيل في وقته من منبعك يكون ارتفاعك في بيلاق ٢٤ ذراعًا.» ووجد العالم جورج داريسي في مدينة هابو مقياسًا للنيل كمقياس بيلاق، ومنقوشًا فيه اسم نقتانيبو الأول أحد ملوك الأسرة التاسعة والعشرين، ولم توجد معلومات يستنتج منها دراجات الفيضان في هذا المكان.
وقد اندرست بمرور الزمن مقاييس أخرى كانت في مناطق عديدة، بل كان بقرب كل معبد في مدينة على النيل مقياس خاص بها، يستفيد به أهل الجهات في معرفة درجات الفيضان في أوائله ونهايته.
لما كانت مسألة الفيضان الشغل الشاغل عند الملوك المصريين اعتنوا في بناء مقاييس له، ومن جملتها مقياس مدينة ممفيس، وبواسطته كانوا يعرفون درجات الفيضان بالضبط.
وقال سترابون: إن مقياس النيل الذي في مدينة بيلاق بني على نسق مقياس مدينة ممفيس.
وقال بروكش باشا العالِم الأثري: إنه كان في مدينة ديوبوليس مقياس خاص بها. وكان الفيضان يصل في مدينة بيلاق إلى ٢٨ ذراعًا، وكان مستوى الفيضان سبعة أذرع في مدينة ديوسبوليس. ووصف المؤرخ بلين آبارًا وجد فيها درجات مقسمة خاصة بمقاييس النيل بطريقة مختصرة لأهل البلاد الموجودة بها.
وقد عُثر سنة ١٨٩٤ على جدار أثري منقوش فيه احتفال بفيضان النيل، بالعبارة الآتية ترجمتها: «في السنة ١٠ في الشهر الثاني من فصل الصيف جاء النيل ذاخرًا.» واكتشف المسيو جورج لجران نقوشًا على رصيف الكرنك، تبين الجهات التي ابتدأ فيها الفيضان من السنة السادسة من حكم الملك ششنق الأول، إلى السنة ١٩ من عهد الملك بسامتيك. وقال سترابون الجغرافي اليوناني أنه رأى نقوشًا تثبت تعيين مفتشين فنيين، كانوا يراقبون زيادة النيل ونقصانه في المقاييس، وربما كان هؤلاء الأشخاص هم الكتبة المذكورون في شاهد حجري محفوظ بمتحف ليد، يرجع تاريخه إلى الأسرة ١٢، ومنقوش عليه هذا اللقب باللغة المصرية القديمة: «الكاتب المنوط بمقياس الفيضان …» إلخ.