الضرائب المصرية القديمة
وُجد منقوشًا على معبد أدفو ديباجة كأنها على لسان النيل تقدم أقاليم مصر إلى المعبود حورس الكبير إله أدفو بما معناه: «جئت إليك أيها المعبود العظيم أستعرض تحت بركاتك جميع الأشياء والمحاصيل والمباني والمعاهد، وخَدَمَة الأماكن المقدسة القائمين بواجباتهم الدينية، معربين بمظاهر أفراحهم المتنوعة وأعيادهم المستديمة، اعترافًا بأن النيل الذي يستمد فيضه من المعبود المحترم أدَّى واجبه في إرواء الأرض وإنتاج النبات، فهو وكل ما يستفيد بمنافعه تجود به الأرض على الزراع أثر من بركات هباتك، فتقبَّل هداياه؛ لأن فيض النيل هو المساعد على استبقاء الحياة للأجسام، وبواسطته يستطيع العباد تقديم هداياهم وقرباناتهم إلى الآلهة، وبتوالي فيضه تتضاعف عنايتهم بإقامة الأفراح وتأدية الشعائر المألوفة، شكرًا لهذه النعم، وبقبولك هديته تنبثَّ في الشعب الشجاعة والحركة الطيبة، فإليك نضرع في هذا الاحتفال، وبك نتمنى دوام الفيض بالبركات.» ومن هذا المأخذ يتضح أن رخاء البلاد لا يكون إلا بتوفر المياه، وموازنتها هي الأساس الأول في ترتيب المنافع واقتسامها بين الشعوب، وتقدير المكافأة من الشعب الخاضع للهيئة الحاكمة المسيطرة بالنظامات على النيل والتجارة وتعليم الشعب والدفاع عن البلاد، ومن هذا أيضًا أرشدنا التاريخ إلى أن الضرائب تفرض على الأراضي الزراعية بنسبة درجتها في الخصوبة ووفرة المحاصيل؛ لأن بالضرائب تستطيع الحكومات تنظيم الشئون العامة جهد استطاعتها، وتبذل عنايتها في ترقية الأحوال باقتضاء العصور وتطورات الأدوار العمرانية.
وقد كان التعامل في السابق جاريًا عن تبادل العروض التجارية، والمحاصيل بنسبة اصطلاحية، ألفوا قبولها فيما بينهم باعتبار أن الإردب القمح يعادل كذا من الأقمشة، ويعادل كذا من باقي المطعومات وأدوات المباني ونحوها.
فكان الفلَّاح يدفع للصيارف مقادير من المحاصيل على نسبة زراعته، وصاحب الأغنام يؤدي عددًا منها بنسبة عدد أغنامه وهكذا.
وكان بعض الملوك يجعل، علاوة على تقدير الضرائب بأنواعها بالأسلوب السالف ذكره، قيام بعض القرى والمدائن بتموين طوائف من المستخدمين الذين يكلفون بتنفيذ نظامات الري، والمحافظة على الترع والجسور، وتطهير الجداول ومؤاساة الذين يؤسرون في الحروب، بما يحتاجونه من الطعام إلى أن يتوفر لديهم من كسب أيديهم ما يكفي باحتياجاتهم.
والقرى التي كانت لا تستطيع النفقات لأولئك الموظفين كانوا يكلفون أفرادًا منها بما يناسب أحوالهم من هذه الأعمال، وجاء في التوراة أن فرعون كان يسخر قبائل بني إسرائيل في هذه الشئون.
وكان عدد المكلفين لتحصيل الخراج كثيرًا جدًّا، والقصد من كثرتهم تسهيل الحصول على ما يمكن في أيدي المزارعين؛ ليسهل على المحصلين توريد ما جمعوه إلى الأماكن الحكومية التابعة لها مناطقهم بأيسر مستطاع، باعتبار أن الكميات التي تجبى يجب عرضها للمعاملات التجارية، حتى لا تزدحم بها المخازن الحكومية، ويترتب على تراكمها تعرض البعض منها إلى التلف، أو أن يؤدي ذلك إلى شبه احتكار في المطعومات ونحوها، فكانت وجهة الملوك في هذا الوقت سعة الرأفة بالطبقات الفقيرة، وأن من صالح هذه الطبقات تسهيل السبيل أمامها في موارد الارتزاق وأوجه الكسب.
وكان عمال الخراج يُدعون باللغة المصرية القديمة «ونو»، وفي عهد الدولة الحديثة «سنو»، وبالقبطية «سون»؛ أي جابي خراج المزارعين، وكان تقدير الخراج بعد مقياس النيل، ويتم تحصيله قبل تمام الفيضان؛ إذ كانوا بحلوله يمتنعون عن تحصيل الضرائب، وكانت أعمال الجباية وتحديد مقادير الضرائب غاية في الدقة، ولهذا يلتجئ الجباة إلى استعمال وسائل للإخضاع في دفع ما عليهم، وكان بعض المزارعين يتذمر من الضرائب كلما تجدد ربطها عامًا بعد آخر؛ لأنه يظن نفسه مغبونًا في التقدير بادئ بدء، وعندما يتأكد أن التقدير جاء طبق ما وصلت إليه التجديدات الفنية بعد مقياس النيل يذعن للأداء، وقد جاء في بعض الأوراق البردية مثل ورقة أنسطاسي وساليير أن بعض محصلي الأموال كانوا إذا أعياهم الأمر لجئوا إلى ضرب الأشخاص بالعصيِّ، أو تغطيسهم في الماء إلى أن يدفع المماطل ما يكون متأخرًا عليه.
وكان تحت أيدي هؤلاء الكتبة المكلفين بجبايات الضرائب وتحصيلها مستخدمون كثيرون بألقاب متنوعة، فمنهم من يلقب المكلف بمون الفم، ومنهم من يلقب برؤساء الشوَن أو المخازن، وفي التوراة ما يؤيد ذلك، لا سيما في قصة سيدنا يوسف عليه السلام.
وكان للمعبود خراج آخر فوق خراج الحكومة، علاوة على ما كانوا يخصصونه من الغنائم والأسلاب الحربية، وهذا خلاف الهدايا التي كان يقدمها الشعب لخدمة المعابد، وكان الكاهن يلقب عندهم رئيس شُوَن آمون ووكيل خزانته.
وكان الشعب المصري يدفع العُشر للمعبود، ومن المؤرخين من كان يظن أن أداء هذا العُشر من مخترعات الشعب الإسرائيلي، ولكن اتضح أنه كان موجودًا في مصر من الزمن القديم.
وقد اكتُشف حديثًا شاهد للملك نقتانيبو الثاني، ووجد منقوشًا فيه أن الملك بسبب انتصاره على غريمه في جهات الدلتا وهب لوالدته المعبودة نيت رفع عوائد المكوس التي كانت تدخل خزانته من هذه البلاد.
وكان من عاداتهم إذا جاء الفيضان ناقصًا أن يخفض من قيمة الخراج مقدارًا يعادل نقص الفيضان، ويؤيد ذلك ما وجد في بعض النقوش لأموني أمير الإقليم «مح» في عهد الملك سنوسرت، بما معناه: «لما كان النيل مرتفعًا والمحاصيل جيدة لدرجة ساعدت في ثروة المزارعين، لم أفرض عليهم ضرائب جديدة ليكونوا على الدوام في فرح وشُكر.» وهذه الجملة تثبت أنه عند نقص الفيضان يُراعى تخفيض الضرائب بقدر هذا النقص، ولا يجوز تقرير ضرائب جديدة.
ووجدت في نقوش أخرى لأمراء أسيوط في عهد الملك خيتي الأول عبارات عن تاريخه بالمعنى الآتي: يفتخر الملك خيتي الأول بأنه أغنى المزارع وساعده على الرفاهية، حتى جعله يقتات بالقمح بدلًا من الذرة الذي كان القوت الغالب لعموم المزارعين في تلك الأدوار.
وكانت طريقة الجباية مرتبة على أشهر المحاصيل؛ لأن الخراج كان يُؤخذ من أجودها، ووُجد في بعض النقوش على قبر أمتن الذي كان معاصرًا لأحد ملوك الأسرة ٦ ما يؤيد هذه القاعدة، وسريان العمل بها إلى عصر الأسرة ٢٤.
وفي عصر البطالسة والرومان كان الملك يشرف على لجان تقرير الخراج التي تؤلف في كل ولاية لتقدير قيمة الأراضي ومحصولاتها، ووضع الخراج لها بدرجة تطابق حالتها، ويقصد الملوك بهذا الإشراف منع التحيز والمجاملة من أعضاء اللجان لوجهاء الأقاليم في التقدير ورفع الحيف عن الفقراء فيما يقدر عليهم.
وقد عُثر سابقًا على رسوم نحاسية بها نقوش، مضمونها أن فيضان النيل في السنين ١٣١ و١٤٤ و١٥٣ كان حسنًا جدًّا.