رأي العلماء في بحيرة مريس
لما كان يتوقعه أَمِنِمحَعْت الثالث أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة من المضار التي يحدثها طغيان الفيضان، أو تترتب على نقصان الفيضان عن مناسيبه، أتم مشروعًا عظيمًا، وذلك بأنه رأى غربي مصر واحةً أراضيها زراعية «بإقليم الفيوم» ممتدة في الصحراء، وتتصل ببرزخ في ناحية يرويها النيل، وفي وسط هذه الواحة يمتدُّ سهل فسيح فيه أرض واسعة منخفضة، تمثل واديًا فيه بحيرة طبيعية «المعروفة الآن ببحيرة قارون»، وطولها أكثر من ثلاثين ميلًا، فنفذ مشروعه الجليل بإنشاء بحيرة تتصل إلى هذا الفضاء، ومساحتها تضاهي ١٠٠٠٠٠٠٠ متر مربع لتدخر فيها المياه، فيستفيد منها الإقليم إذا جاء النيل شحيحًا، والجانب الأيسر لها يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط، فينحدر إلى هذه البحيرة كل ما يزيد عن الحاجة في زمن الفيضان، وما تضيق به هذه المساحة ينصرف إلى بِركة قارون بواسطة ترعة أُعدت لذلك.
فاشتهرت هذه البحيرة وأَجَلَّ مشروعها عظماء الرجال الهندسيين، وتدعى الآن بحيرة مريس، وكلمة مريس معناها باللغة المصرية القديمة بحيرة، ولما رأى هيردوت هذه البحيرة أطنب في وصفها، بالفوائد الجمة الناتجة عنها، وقال: إنها كانت تبعد عن النيل مسافة سبعة أيام، وكان عمقها خمسين باعًا.
وافترض علماء الآثار نظريات كثيرة عنها، وقال المهندس لينان الذي كان من رجال الري المعدودين في عصر الخديوي إسماعيل باشا: إن بحيرة مريس هي شرقي إقليم سلسلة جبال ليبيا في جهة بجيج، بهبجور ذات التلول الممتدة قبلي حوض الغرق، وقد وافق ليبسيس العالم الأثري الألماني على هذا الرأي، ولكن العالم ماسبرو لم يؤيده، وأيدت مذهبه فيها أبحاث مصلحة الري الحديثة، وقال: لا أظن وجودًا لهذه البحيرة، وقد يكون المؤرخ هيردوت لمَّا زار مصر كان مروره بتلك الجهة في زمن الفيض الذي تكون المياه فيه متدفقة في حياض البلاد كلها، ويظنها الناظر بحرًا واحدًا، وتخيل الحواجز بين حياض البلاد ضفة لبحيرة دائمة، فكتب عنها ما وسعه ظنه بدون بحث ولا تحري عن الحقيقة، ولكن إذا كانت هذه البحيرة أحدثت كما وصفها الرواة، فإنها تكون من أعظم المفاخر للعقول البشرية، ومن أكبر الآثار لأعاظم الملوك في عمران البلاد وخصبها.
وإلى المباهاة والاعتراف بمزايا هذه البحيرة تكلم كثير من علماء الغرب في فوائدها، وأنها بما يترتب عليها من المنافع في توازن الري والقيام بإرواء البلاد المجاورة عند نقص الفيضان تعدُّ أعظم شأنًا في الفخر لعظماء الملوك ممن حصروا أعمالهم على تشييد الأهرامات ونحوها؛ لأن الأهرامات تدلُّ على عظمة وسطوة فقط، ولكن إنشاء البحيرات وتمهيد السبل لإصلاحات الري أكبر فائدة وأحق بالشكران؛ لما يترتب عليها من منفعة بني الإنسان.