أعياد النيل عند قدماء المصريين
عُرف من الآثار التي استكشفت أن المصريين كانوا يقيمون للنيل احتفالات تشبه الأعياد، ولم يذكر المؤرخون عنها إلَّا شيئًا قليلًا، فمن ذلك ما قاله «بلين» المؤرخ الشهير: «إن المصريين في عصره كانوا يقدمون الغذاء للتماسيح ويلبسونها بعض الثياب في وقت الفيضان ويلقونها في النيل فتبدو ألوان الثياب الناصعة في منظر بهيج يروق الناظرين.»
والذي لا شك فيه أن كل الاحتفالات الخاصة بالمهرجانات التي تُقام لفيضان النيل سنويًّا كانت بمنزلة فريضة دينية يحترمها الناس كاحترامهم للنيل، وكان رؤساء النيل يقيمون لها الزينات المعتادة للأعياد العامة.
وجاء أيضًا ما نصه: «يستقبل الشعب المصري بالفرح والسرور ظهورَ مياه السلسلة المقدسة فابتهاج النفوس. وفرحها بمجيء النيل أمرٌ طبيعي، ويجب أن يعدَّ فيضانه في مقدمة الأعياد التي بحلولها يهنئ المصريون بعضهم بعضًا.»
وجاء في أنشودة النيل المكتوبة في ورقة أنسطاسي البردية ما نصه: «أيها الفيضان المبارك، قُدمتْ لك القرابين والذبائح، وأُقيمت لك الأعياد العظيمة، وذُبحتْ لك الطيور، واقتُنصت لتحيتك الغزلان من الجبال، وأعدت لك النار الطاهرة، وقُدم لك البخور والنعم السماوية والعجول والثيران، فتقبلها هدية شكر واعتراف بفضلك.»
وجاء ذِكر أعياد النيل في مائدةٍ للقرابين محفوظة في متحف فلورانس، ويرجع تاريخها إلى ملوك الأسر الثلاث الأولى.
وقال ماسبرو في هذا الموضوع: «عندما يصل الماء المقدس إلى جدران مدينة «سين» يقدم الكهنة أو الحاكم أو أحد نوابه ثورًا أو بطًّا، ويلقيه في الماء في حرز من البردي مختوم عليه، ويكتب في الحرز الأمر الملكي الخاص بنظام الفيضان، ومتى ترأس الملك نفس هذا الاحتفال نقشوا في الصحراء وسجلوا هذا الحادث تذكارًا تاريخيًّا، وإذا تغيب الملك عن الاحتفال ناب عنه الكهنة باحتفال عظيم، حاملين تمثال المعبود سائرين به على ضفاف النيل والجسور مرتلين الأناشيد.»
من المستندات الرسمية الباقية عندنا الآن شواهد السلاسل الثلاث، ويرجع تاريخها إلى عهد الملوك رعمسيس الثاني، ومنفتاح ابنه، ورعمسيس الثالث، وهي تنقسم إلى جملة أجزاء، فبعد مقدمة رعمسيس الثاني تقرأ أنشودة النيل وخطاب الملك بالتهليل للمعبود، ثم القرار الذي يحدد تاريخ الأعياد، ويلحق به كشف القرابين، وملخص ترجمته كالآتي:
في السنة الأولى والشهر الثالث من فصل الحصاد، واليوم العاشر في عهد المنير الشمس الملك القادر المحبوب من الحق، صاحب التيجان حاكم مصر المنتصر على البلاد الجبلية، حورس الذهبي المديد العمر المبارك، ملك الوجهين البحري والقبلي، رعمسيس المحبوب من آمون أبو الآلهة، الذي يمنحهم الحياة والبقاء والقوة كالشمس إلى الأبد، فليُحْيِ الإله الطيب النيل الذي يحيي النفوس بجوهره والثروة بثمراته، أنت أيها الوحيد الذي تظهر من نفسك ولا يعرف أحد ما تحويه، والكل يفرح بظهورك من مخبئك، فيك تربى الأسماك العديدة، ومنك تفيض الخيرات على مصر، فأنت خُلقت لأجلنا، ويُسَرُّ بك الناس، والمعبود «نون» متى قدَّم له القرابين أهالي البلاد، واتحدوا معه في فرح التحية بقدوم النيل المضيء، فخيراته على البلاد تستفيض من صنع يديه وتتدفق ببركاته.
وقد أمر الملك بتقديم القرابين لأبيه آمون رع ملك الآلهة مرتين في السنة؛ في زمن مياه السلسلة المقدسة وفي مكانه المكرم الذي لم تكن قبله مياه، حياة وسلام وقوة.
فتقدم القرابين في اليوم الأول من شهر سايت، وفي الخامس عشر من شهر توت، وفي الثالث من فصل الفيضان والخامس من شهر أبيب كضريبة سنوية.
ويلقى في النيل عجل أبيض وثلاث إوزات وهدايا ثمينة (لا بنت عذراء كما يزعمون)، ثم الكتاب الشامل لتفصيلات المهرجان، وأنواع الهدايا للإله آمون رع ملك الآلهة ورب مدينة طيبة.
ومهما اختلف المؤرخون في تواريخ أعياد النيل ونماذج احتفالاتها فلا تخرج عباراتهم عن قولٍ واحدٍ، وهو بذل جهدهم في مظاهر الأفراح عند مبادئ الفيضان، وإلى ذلك أشار العالم الأثري «دي روجيه»؛ إذ قال: «في اليوم الخامس عشر من شهر توت جاء فيضان النيل في سلسلة، وفي ١٥ أبيب صعد النيل فقدمت القرابين والهدايا للمعبود «حعبي»، وفي ذاك اليوم كانوا يلقون له ميثاقًا مكتوبًا من ديوان الملك، فيقبل النيل هذا العهد ولا يتخلف عن وعوده فيمنح مواهبه أرض عبيده المؤمنين.»
وفي نتيجة «مدينة هابو» تاريخ أعياد يحتفلون بها، ويظهر أن قدماء المصريين كانوا يحتفلون في يوم ٣٠ من شهر كيحك بعيد الصليب، قال «بروكش باشا»: إنهم كانوا يحتفلون بهذا العيد في جملة مدائن مثل أدفو ودندرة وإسنا.
وكانوا يجعلون لمقياس النيل عيدًا خاصًّا، فيحمل مقياس النيل في معبد سيرابيس.
وروى «سنيك» الفيلسوف الروماني أن المصريين في عهد الرومان كانوا يلقون في نهر بيلاق القرابين، ويُلقي الحكام بعدها هداياهم من الذهب وأنواع الحليِّ.
ولا زال تقليد الاحتفال بأعياد النيل باقيًا إلى يومنا هذا، ولا نعثر على نص مصري يؤيد ما نُسب إلى قدماء المصريين عن تقديمهم ذبيحة بشرية في حفلة فيضان، أو لأجل أن يجود النيل على البلاد بفيضه السنوي.
ويظهر أن منشأ هذه الخرافة قصة رواها «بلوتارك»، المؤرخ اليوناني وتناقلها عنه غيره من قومه، ومن الرومان ومن العرب؛ إذ قال: «اعتمادًا على وحي أجيبتوس ملك مصر قدم ابنته قربانًا للنيل ليخفف غضب الآلهة، وأنه بعد فقد ابنته ألقى بنفسه في النيل.»
فهذا القول هو أصل الاعتقاد بتقديم فتاة عذراء قربانًا للنيل المعبود كل سنة، ويكفي أن البداهة الذوقية تُكذب هذا الزعم، بعد العلم الراسخ بما كان للمصريين من القِدْح المُعَلَّى في المدنية ورقة الشعور وسمو العواطف حتى مع الحيوانات العجم، فبالأولى تشمئز سجيتهم عن إلقاء فلذة كبد من أكبادهم في مجرى المياه المتلاطم الأمواج، التي لا تبقي شيئًا من إرهاق النفوس واختطاف الأرواح من أجسادها، ولم يكن هناك أقل نسبة عقلية بين اقتراف هذا الجرم وانخداع النيل بارتكابه.
أما ذكر عروس النيل بلفظة «ربيت» المشار إليها في ورقة «هريس البردية»، فيكفي في إثبات أنه خرافة وخطأ أن لفظة «ربيت» هو علم على أحد أشكال النيل المؤنثة، وليس علمًا على عروس كانت تُلقى في النيل كما زعم بعض المؤرخين، والقول باستمرار العادة بالهدايا الذهبية والطيور والحيوانات لا ضرر منه، وغاية ما يلتمس به العذر هو التفاؤل بأن يكون الفيضان سخيًّا على مجموع الخلائق يجود بأهم ما تشتاقه النفوس.