أنشودة النيل لقدماء المصريين
من لوازم الفطرة الراقية ابتكار الأناشيد في المناسبات التي ترتاح النفوس فيها إلى
الترنُّم بما يستطاب لأجلها، افتخارًا واستلذاذًا واستبقاء لحسن الأحدوثة، فيتداول الناس
الأناشيد كلما تجددت الذكرى للاحتفالات، والنيل عند قدماء المصريين قد اختصوه بما ألفوا
من
مظاهر الأفراح ودلائل المسرات عند فيضانه ومواسم أعياده، وقد خصوه بأناشيد رائعة تُعرب
عن
شدة شعورهم، ومن بينها الأنشودة التي نمقها في عصره الشاعر المصري القديم، ووجدت مكتوبة
في
لوحتين على الورق البردي، معروفتين بورقتي ساليير وأنسطاسي، وهما من مجموعة الأوراق البردية
المحتفظ بها إلى الآن في المتحف البريطاني، وترجمها العالمان الأثريان الشهيران ماسبرو
وجبس، وهما اللذان نقلاها من الشعر المصري القديم، وترجمتها إلى العربية نظمًا من
الرجز:
١
نُسْدِي إلى النيل سلامًا عاطرًا
لأنه قد جاءنا مُباكرًا
اليوم عيد النيل في بشراه
فكلنا تسرُّنا لُقْيَاه
النيل يُحيي فيضُه بلادَه
وهي له تلازم العباده
منظره يروق للأبصار
وسره معجزة الأفكار
النيل يأتينا من الظلمات
ليملأ الأكوان بالخيرات
يروي نداه أنضر الحدائق
وينبت الأرزاق للخلائق
كأنه يأتي من السماء
ليمنح الحياة للأحياء
يحيي موات الأرض في النواحي
كأنه من عاملي فتاح
يجود بالخير «لسب» محسنًا
كما «لنبرا» قد أقرَّ الأعينا
٢
النيل رب السمك المحبوب
يأتي به من عالم
الغيوب
ويخصب النبات في الغيطان
والزهر والريحان في
البستان
ينبت قمحًا وشعيرًا جيدًا
ولن يصد النيل عنه
أحدًا
بالنيل ينجو من شقاء الدهر
كل فقير من أهالي
مصر
في نعمة النيل لهذا الوادي
سعادة الحكام
والأفراد
والبطء في الفيض يضر الخلقا
ويغضب الربَّ الرحيم
حقَّا
٣
فيوضه تأتيه من أتوم
فنجتني من خيره
المقسوم
وتنتفي أوهام كل خائف
بالنيل فهو مصدر
اللطائف
٤
كأنك الخالق للأشياء
ومانح الضعاف
بالنعماء
ومِن نداك نمنح القربانا
فلا نخاف بعده
هوانا
كلُّ غنيٍّ منك يرجو نعمته
ويمنح المحتاج منها
رحمته
فأنت للغنيِّ والفقير
ملجأ كل الخير
والتيسير
٥
أنت رئيس سفن الحياة
تسري بها لساحل
النجاة
أسرار مجراك علينا خفيت
لكن مزاياك لدينا
عظمت
فلستَ محتاجًا إلى قربان
ولست تخشى خدع
الإنسان
٦
ولست محتاجًا إلى مكان
فأنت رب الفيض
والإحسان
يلقاك بالتصفيق عند اللقيا
مستبشرين كل مَن في
الدنيا
فأنت تحيي مهجة الظمآن
وحارس الملوك
والتيجان
٧
منك المعونات على الدوام
مقرونة بالحمد
والإعظام
وأمرك المطاع في البلدان
تقبله النفوس
بالإذعان
وتملأ القلوب حبًّا صادقًا
وتجعل الكون بشكرٍ
ناطقًا
أولاد «سبك» منك في أفراح
وأهل «نيق» بك في
انشراح
كأنما دائرة الموجود
أمام مجراك من
الجنود
يغني العباد عن شقاء الجهد
فيضك إذ يأتي بكلِّ
رغد
٨
يضيء منك الماء حين يبدو
بعد الظلام وهو ما
تودُّ
لم تتخذ فيما ترى أعوانًا
ولم تَدَع لحاكم
سلطانا
فأنت روح الكل في الوجود
أنعم بفيض النيل من
مقصود
٩
تأتي وتمضي طبق ما تريد
وكم تطيع ربها
العبيد
وكل ثوب من هموم ماضية
تنزعه بشرى التلاقي
الزاهية
فأنت للسقام نعم البلسم
ومنك للجميع تصفو
الأنعم
تجيب بالفيض رجاء الأمة
وتصطفيها بعميم
الرحمة
يحوي ثراك أنفس المعادن
فتكثر الأموال في
الخزائن
لكنَّ بالقمح حياة الناس
وليس بالأموال في
القرطاس
١٠
في عيدك الصغار والكبار
تطربها الطبول
والمزمار
ويستطاب الأنس والسرور
ويتباهى بالصفا
الجمهور
فأنت حقًّا زينة البلاد
ومصدر الخيرات
والإسعاد
١١
وكلما جئت إلى العواصم
أسديت فيها أعظم
المغانم
فيفرح الغني والفقير
إن لم يعق فيوضك
التأخير
وهكذا مسرة الأقوام
يَحْبُونها في سائر
الأعوام
١٢
نهدي إليك الطيب والعجولا
وكل قربان نرى
مقبولا
ونوقد النيران والبخورا
ونملأ الدنيا بها
سرورا
تخرج من «بتيو» وتأتي طيبه
كمستهام زائر
حبيبه
وكل ما يحويه سرُّ النيل
لم نكتشف منه سوى
القليل
١٣
مصر تعد النيل ربًّا ساميًا
فاجعل لنا بالفيض حظًّا
ناميا
واجعل بني النيل على سواهم
يرقون شأنًا رغم من
عاداهم
آمين، آمين، آمين
وكان قدماء المصريين باعتيادهم الترنُّم بهذه الأنشودة، يعتنون بتوقيعها على أوضاع
الآلات الموسيقية؛ ليكون لوقعها في النفوس طرب النشوة الموسيقية والانشراح القولي، ولا
زلنا إلى العصر الحالي نتلقى من عوام المنادين الذين يطوفون وحولهم الغلمان في الأزقة
والحواري ما هو بلا شك صدًى متتابع، من ترديد هذه النغمات أيام الفيضان.
ومن أولئك المنادين من يقتصر فيما يلقيه على غلمانه بأناشيد مختصرة ونغمات مقتضبة،
ومنهم من يجعل كلماته على نسق السجع المرصع الذي طرأ عليه التحريف العامي في النطق
والتلحين، بما لا يخرج في معناه عن القول الآتي: إنك أيها النيل المبارك صاحب القوة
العظيمة، ومنك تتدفق الكنوز وتفيض الخيرات على أرض مصر، بارك الله في فيضانك وأدامك
متدفقًا بالخير والبركة على البلاد والأودية والبساتين والمزارع، يشكر نعماءك الإنس
والحيوان والطيور في أوكارها، والحيتان في أغوارها.
فإذا كانت عبادة النيل بصفته إلهًا، كما كان يمجده به قدماء المصريين في حفلاتهم
ومعابدهم، فمقابلته بالتحية والبشاشة والفرح والسرور عند مبادئ أشهر فيضانه آثار باقية
من العواطف القومية لدى الأمة المصرية، بصرف النظر عن اختلاف المعتقدات والتطورات
العصرية.