عبادة النيل
معلوم أن قدماء المصريين كانوا على جانب عظيم من التعلق بمعتقداتهم الدينية، وكانوا يجعلون لكل شيءٍ عظيم النفع إلهًا خاصًّا يقدمون إليه عبادتهم في أوقات يحددونها؛ لما اشتهر عندهم من خواص هذا الشيء، فكانوا يقيمون للنيل العبادات المتعددة في أوائل الفيضان، وفي عيد الصليب وغيره مما مرَّ بنا إيضاحه.
وقد استعمل المؤرخون اليونان والرومان حد التطرف ومنتهى الغلو فيما تكلموا به عن معتقدات وعبادات المصريين، مع كونهم لم يعرفوا لغة البلاد الحقيقة التي تمكنهم من الوصول إلى سر هذه العقائد والعبادات، ونشروا في مؤلفاتهم افتراءً شنيعًا على المصريين وقالوا: إن عبادتهم كانت قاصرة على الأصنام، حتى قال بوسييه في كتابه «خطاب في التاريخ العالمي، الجزء الثالث»: «كان كل شيء إلهًا في مصر ما عدا الله تعالى.» ولا ينبغي أن تأخذنا الدهشة لهذا الافتراء الصادر عن جهالة قائليه، فإن الزائر للمتحف عندما يشاهد الآثار الموجودة، ويرى تماثيل الآلهة ونحوها يعتقد أن لتلك الطائفة في معتقداتها أسرارًا باهرة وآدابًا سامية، فما كانوا يعظمون آلهتهم وملوكهم إلَّا لاعتقادهم فيها الوسيلة والزلفى لدى الله، الذي هو الإله الأكبر الذي تدين الكائنات لعظمة قدرته.
ولم يكن اشتغال الشعب المصري بالإبداع في الرموز والتصاوير إلَّا من باب التوسع في الفراسة الذهنية، والتفنن الذوقي في انتفاء ما يعتقدون به نوال القربى لدى هذه الآلهة الثانوية.
وقد قال إكليمندس الإسكندري الذي جاء مصر في عصور الاضمحلال لديانة القدماء الحقيقية: إنهم كانوا يصورون آلهتهم بمنظر وحش يتمرغ على بساط من أرجوان، وإنهم كانوا يقدمون للنيل في مواسم الفيضان ونحوه عبادة خاصة باعتبار أنه المصدر الأقوى لحياتهم الزراعية والعمرانية.
وقد عُثر على حجر يرجع تاريخه إلى الأسرة الرابعة، منسوب لابنة الملك خوفو تكلمت فيه عن عبادة المصريين للنيل، ولم تعلم لنا منه الأماكن التي كانت معدَّة لهذا التعبد، وذكرت عبادته في مدينة ممفيس.
وكان بيت النيل «ولعله منبعه» يدعى في المدن الأخرى باللغة المصرية القديمة «باحعبي»، وأشهر هذه المدن تُسمى «هاحعبي»؛ أي قصر النيل، وعُلم مما اكتشف أخيرًا على حجر من السرابيوم أن هذه المدينة هي مدينة هليوبوليس.
ووجد منقوشًا على مائدة للقرابين محفوظة اليوم في متحف فلورانس، ويرجع تاريخها إلى الأسرة الثالثة عبارات ببيان الاحتفالات الدينية التي يقيمها المصريون إكرامًا للنيل المبارك، وأن عبادته يرجع تاريخها إلى العصور الأولى، وكان عند قدماء المصريين معدودًا من الآلهة الثانوية.
والحقيقة أن القيام بالعبادات للنيل كان عامًّا بأنحاء القطر، ولم يكن مختصًّا بجهة دون أخرى، وفقط كانت بعض البلاد تمتاز بفخامة معابدها ومبانيها، ونقشوا فيها احتفالات النيل مثل معابد الكرنك وأدفو ودندرة ومدينة هابو.
وكان النيل يُمثل في هذه المعابد على شكل إله طبيعي، ويعبدونه باعتقادهم فيه الأقدمية والدهرية.
وكانوا يمثلونه بصفته إلهًا مقدسًا «حعبي»، ويلقبونه إله الخصب والأب المربي، على شكل رجل في ربعان الشباب ممتلئ سمنًا ونشاطًا، كرجل مترف غني من العظماء، يعلق على تمثاله حليًّا في الصدر يشبه ثدي المرأة، وبطنه مطوية من الشحم، وفخذاه ثابتتان مدورتان أشبه منظر بالغادة الحسناء، ونقشت فوقه هذه الكلمات باللغة المصرية القديمة: «عنخ، أوزا، سنب»، ومعناها الحياة والصحة والقوة. وهكذا كان المصريون يمثلون رسم رجالهم الأغنياء العظماء.
ومن تماثيل النيل ما هو مختلف اللون؛ فبعضها أحمر وبعضها أزرق يحمل على رأسه النباتين البردي واللوطس، رمزًا إلى الوجهين القبلي والبحري، وبعض هذه التماثيل مرسوم على جدارن معبد سيتي الأول بأبيدوس ومعابد أدفو ودندرة؛ لأن عبادة النيل كانت منتشرة في جميع الأقاليم كما تقدم.
وترى بالمتحف المصري بالطبقة السفلى الغربية تمثالين لنيل الوجه القبلي ولنيل الوجه البحري، حاملين الأسماك والطيور والأزهار؛ ليقدماها هدية للملك، وكثيرًا ما يمثل النيل في كتاب الموتى بصفته الرمزية، وقد نقش على صفحة سلسلة أن النيل هو أبو الآلهة، وأنه خرج من نفسه.
ومن الغريب أن قدماء المصريين شيدوا معابد كثيرة لآلهتهم، ولم يقيموا معبدًا للنيل، بل نقرأ اسمه منقوشًا على جدران المعابد وقواعد المسلات، وكان له فيها رجال يتخصصون لخدمته.
وروى هيردوت أنه كان من عاداتهم انتشال جثة من يموت غريقًا أو يبتلعه تمساح ودفنها بالإكرام والتعظيم.
وكانوا يعتقدون أن النيل المؤلَّه يقيم في جزيرة بيجا، وأن خزانته «منبعه» موجود هناك، وكانوا يعتقدون أنه آتٍ من نون، وهو الفضاء الأول الموجود، وإنما ليس له ابتداء، وأن الإله حعبي يتحد مع إزيس في ضمانة البقاء الأبدي له، ولهذا اعتادوا أن يجعلوا اليد اليسرى لمن يموت في ست لفائف، ويرسمون عليها اسم النيل والمعبودة إزيس، وفي بعض المدارس اللاهوتية أن النيل «حعبي باتحاده مع إزيس زوجة المعبود أزوريس» هو الفيضان الذي يخصب أرض مصر.
واعتقد قدماء المصريين أن الدار الآخرة تشبه الحياة الدنيا، وأنه يوجد بها نيل كنيل مصر، واعتقدوا أن جنتهم وادٍ منحصر بين جبلين يفصلهما نهر تمرُّ فيه سفينة الشمس، وأن مياهه تمر من الغرب إلى الشمال حتى منتصف المسافة، وتنزل في المجرى ذاته من الشمال إلى الغرب، وأن إزيس بكت زوجها أزوريس في هذا النهر، ولما نزلت فيه مدامعها تفجرت مياهه وسببت هذا الفيضان الأرضي، وكانت المياه السماوية تحوط الجنة، والشمس تطوف حول مجرى هذه المياه التي تُغطي هذه الدنيا تمامًا وتفصلها عن السماء.
ومتى اختفت الشمس في الأفق تمر سفينتها في المياه السماوية، وأن سفينة الشمس تمر بالليل في وادي الأموات، ودعوا النيل الشهير «الجندي»، وأن الأموات في الدار الآخرة تمرُّ في سفينة الإله رع.
ومن هذا يتبين للقارئ أنه لم يكن عندهم سوى نيلين؛ النيل السماوي، والنيل الأرضي، وهو نيل مصر.