تعريف علم المعاني، وموضوعه، وواضعه
-
(١)
علم المعاني: أصول وقواعد، يُعرف بها أحوال الكلام العربي التي يكون بها مطابقًا لمقتضى الحال،١ بحيث يكون وفق الغرض الذي سِيق له.
فذكاء المخاطب حال تقتضي إيجاز القول، فإذا أوجزت في خطابه وكان كلامك مطابقًا لمقتضى الحال، وغباوته حال تقتضي الإطناب والإطالة — فإذا جاء كلامك في مخاطبته مطنبًا فهو مطابق لمقتضى الحال، ويكون كلامك في الحالين بليغًا، ولو أنك عكست لانتفت من كلامك صفة البلاغة.
-
(٢)
وموضوعه: اللفظ العربي من حيث إفادة المعاني الثواني٢ التي هي الأغراض المقصودة للمتكلم، من جعل الكلام مشتملًا على تلك اللطائف والخصوصيات التي بها يطابق مقتضى الحال.
-
(٣)
وفائدته:
- (أ)
معرفة إعجاز القرآن الكريم، من جهة ما خصَّه الله به من جودة السبك، وحُسْن الوصف، وبراعة التراكيب، ولطف الإيجاز، وما اشتمل عليه من سهولة التركيب، وجزالة كلماته، وعذوبة ألفاظه وسلامتها؛ إلى غير ذلك من محاسنه التي أقعدت العرب عن مناهضته، وحارت عقولهم أمام فصاحته وبلاغته.
- (ب)
والوقوف على أسرار البلاغة والفصاحة في منثور كلام العرب ومنظومه؛ كي تحتذي حذوه، وتَنسج على منواله، وتفرق بين جيِّد الكلام ورديئه.
- (أ)
-
(٤)
وواضعه: الشيخ عبد القاهر الجرجاني، المتوفَّى سنة ٤٧١ھ.٣
-
(٥)
واستمداده: من الكتاب الشريف، والحديث النبوي، وكلام العرب.
واعلم أن المعاني جمعُ معنًى، وهو في اللغة: المقصود. وفي اصطلاح البيانيِّين: هو التعبير باللفظ عما يتصوَّره الذِّهن، أو هو الصورة الذِّهنيَّة من حيث تُقصد من اللفظ.
واعلم أنَّ لكل جملة ركنين:- مسندًا: ويُسمى محكومًا به، أو مُخبرًا به.
- مسندًا إليه: ويُسمى محكومًا عليه، أو مُخبرًا عنه.
وأما النسبة التي بينهما فتُدْعَى «إسنادًا».
وما زاد على المسند والمسند إليه من مفعول، وحال، وتمييز، ونحوهم — فهو قيد زائد على تكوينها، إلا صلة الموصول، والمضاف إليه.٤و«الإسناد» انضمام كلمة٥ «المسند» إلى أخرى٦ «المسند إليه» على وجه يقيد الحكم بإحداهما على الأخرى ثبوتًا أو نفيًا، نحو: الله واحد لا شريك له.ومواضع المسند ثمانية:
-
(١)
خبر المبتدأ، نحو: «قادر» من قولك: الله قادر.
-
(٢)
والفعل التام، نحو: «حضر» من قولك: حضر الأمير.
-
(٣)
واسم الفعل، نحو: «هيهات – وَوَيْ – وآمين».
-
(٤)
والمبتدأ الوصف المستغني عن الخبر بمرفوعه، نحو: «عارف» من قولك: أعارف أخوك قدر الإنصاف.
-
(٥)
وأخبار النَّواسخ «كان ونظائرها، وإن ونظائرها».
-
(٦)
والمفعول الثاني لظن وأخواتها.
-
(٧)
والمفعول الثالث لأرى وأخواتها.
-
(٨)
والمصدر النائب عن فعل الأمر، نحو: «سعيًا في الخير».
ومواضع المسند إليه ستة:- (١)
الفاعل «للفعل التام أو شبهه» نحو: «فؤاد، وأبوه» من قولك: حضر فؤادٌ العالم أبوه.
- (٢)
وأسماء النواسخ «كان وأخواتها، وإن وأخواتها» نحو: «المطر» من قولك: كان المطر غزيرًا، ونحو: إنَّ المطر غزير.
- (٣)
والمبتدأ الذي له خبر، نحو: «العلم» من قولك: العلم نافع.
- (٤)
والمفعول الأول لظن وأخواتها.
- (٥)
والمفعول الثاني لأرى وأخواتها.
- (٦) ونائب الفاعل؛ كقوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ.
ثم إن المسند والمسند إليه يتنوَّعان إلى أربعة أقسام:- (١)
إما أن يكونا كلمتين حقيقة، كما ترى في الأمثلة السالفة.
- (٢)
وإما أن يكونا كلمتين حكمًا، نحو: «لا إله إلا الله ينجو قائلها من النار» أي: «توحيد الإله نجاةٌ من النار».
- (٣)
وإما أن يكون المسند إليه كلمة حكمًا، والمسند كلمة حقيقة، نحو: «تسمع بالمعيديِّ خير من أن تراه»؛ أي: «سماعك بالمُعَيْدِيِّ خير من رؤيته».
- (٤) وإما بالعكس، نحو: «الأمير قَرُبَ قُدومُه»٧ أي: الأمير «قريب قدومه» ويُسمى المسند والمسند إليه: ركني الجملة.
وكل ما عداهما يُعتبر قيدًا زائدًا عليها كما سبق الكلام عليه.
وينحصر «علم المعاني» في ثمانية أبواب وخاتمة.
هوامش
لا نعلم أحدًا سبق أبا عبيدة بن المثنى — المتوفَّى سنة ٢١١ھ تلميذ الخليل بن أحمد — في تدوين كتاب في علم البيان يُسمى «مجاز القرآن»، كما لا نعرف بالضبط أول من ألَّف في علم المعاني، وإنما أثر فيه نبذ عن بعض البلغاء كالجاحظ في كتابه «إعجاز القرآن» وابن قتيبة في كتابه «الشعر والشعراء» والمبرد في كتابه «الكامل».
ولكن نعلم أن أول من ألف في البديع «الخليفة عبد الله بن المعتز بن المتوكل العباسي» المتوفَّى سنة ٢٩٦ھ.
وما زالت هذه العلوم تسير في طريق النمو، حتى نزل في الميدان الإمام «أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني» المتوفى سنة ٤٧١ھ فشمر عن ساعد الجد، فدون كتابيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، وقرن فيهما بين العلم والعمل. ثم جاء إثر عبد القاهر «جار الله الزمخشري» فكشف في تفسيره «الكشاف» عن وجوه إعجاز القرآن، وأسرار بلاغته، وأوضح ما فيه من الخصائص والمزايا، وقد أبان خلالها كثيرًا من قواعد هذه الفنون. ثم نهض بعده «أبو يعقوب يوسف السَّكَّاكي» المتوفَّى سنة ٦٢٦ھ، فجمع في القسم الثالث من كتاب «المِفتاح» ما لا مزيد عليه، وجاء بعده علماء القرن السابع فما بعده يختصرون ويضعون مؤلفاتهم حسب ما تسمح به مناهج التعليم للمتعلمين في كل قطر من الأقطار حتى غدت أشبه بالمُعَمَّيَات والألغاز.
والقيود هي: أدوات الشرط، والنفي، والتوابع، والمفاعيل، والحال، التمييز، وكان وأخواتها، وإن وأخواتها، وظن وأخواتها، كما سيأتي.
«تنبيه»: الإسناد مطلقًا قسمان: حقيقة عقلية، ومجاز عقلي. فالحقيقة العقلية هي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما وضع له عند المتكلم في الظاهر من حاله، نحو: تجري الأمور بما لا يشتهي البشر، وأنبت الله النبات. والمجاز العقلي (ويسمى إسنادًا مجازيًّا، ومجازًا حكميًّا، ومجازًا في الإسناد) هو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما وُضع له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد إلى ما هو له، نحو: تجري الرياح بما لا تَشتهي السفن.
وله علاقات شتى: فيلائم الفاعل لوقوعه منه، نحو: «سيل مفعم» بفتح العين؛ أي مملوء، فإسناد مفعم وهو مبني للمفعول إلى ضمير السيل وهو فاعل مجاز عقلي ملابسته الفاعلية. ويلائم المفعول به لوقوعه عليه، نحو: «عيشة راضية» فإسناد راضية، وهو مبني للفاعل إلى ضمير العيشة وهي مفعول به «مجاز عقلي» ملابسته المفعولية. ويلائم الزمان والمكان لوقوعه فيهما، نحو: «صام نهارَه، وسال الميزاب، ونهار صائم، ونهر جارٍ». ويلائم المصدر، نحو: «جد جده». ويلائم السبب، نحو: «بنى الأمير المدينة». وكما يقع المجاز العقلي في الإسناد يقع في النسبة الإضافية: ﮐ «مكر الليل، وجري الأنهار»، وشقاق بينهما.
وغراب البين «على زعم العرب» وفي النسبة الإيقاعية، نحو: «وأطيعوا أمري ولا تطيعوا أمر المسرفين» وأجريت النهر. وكما يكون في الإثبات يكون في النفي، نحو قوله تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ «وما نام ليلي» على معنى: خسرت تجارتهم، وسهر ليلي. قصد إلى إثبات النفي، لا نفي الإثبات. ويكون أيضًا في الإنشاء، كما سبقت الإشارة إليه، نحو قوله تعالى: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ ونحو: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا وليصم نهارك، وليجد جدك، وليت النهر جارٍ، وما أشبه ذلك.
وأقسامه باعتبار حقيقة طرفيه ومجازيتهما أربعة؛ لأنهما إما حقيقتان لغويتان، نحو: «أنبت الربيع البقل»، أو مجازان لغويان، نحو: «أحيا الأرض شباب الزمان»؛ إذ المراد بإحياء الأرض تهييج القوى النامية فيها، وإحداث نضارتها بأنواع الرياحين. والإحياء في الحقيقة إعطاء الحياة، وهي صفة تقتضي الحس والحركة. وكذا المراد بشباب الزمان زمان ازدياد قواها النامية، وهو في الحقيقة عبارة عن كون الحيوان في زمان تكون حرارته الغريزية مشبوبة؛ أي قوية مشتعلة. أو المسند حقيقة لغوية والمسند إليه مجازي لغوي، نحو: أنبت البقل شباب الزمان. أو المسند إليه حقيقة لغوية والمسند مجاز لغوي، نحو: أحيا الأرض الربيع. ووقوع المجاز العقلي في القرآن كثير، نحو ما تقدم، ونحو: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا، ويَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا.
ولا بد له من قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي؛ لأن الفهم لولا القرينة يتبادر إلى الحقيقة. والقرينة إما لفظية وإما معنوية؛ فاللفظية كقولك: هزم الأمير الجند وهو في قصره، والمعنوية كاستحالة قيام المسند بالمسند إليه المذكور معه عقلًا؛ بمعنى أنه لو خلَّى العقل ونفسه عد ذلك القيام محالًا؛ كقولك: محبتك جاءت بي إليك. لاستحالة قيام المجيء بالمحبة عقلًا. وكاستحالة ما ذُكر عادة، نحو: هزم الأمير الجند. لاستحالة قيام هزيمة الجند بالأمير وحده عادة. وإن أمكن، وكان يصدر من الموحد، نحو:
هذا؛ وقد أنكر «السكاكي» المجاز العقلي، ذاهبًا إلى أن أمثلته السابقة ونحوها منتظمة في سلك الاستعارة بالكناية، فنحو: «أنبت الربيع البقل» يجعل الربيع استعارة عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه، ويجعل نسبة الإثبات إليه قرينة الاستعارة. وسيأتي مذهبه إن شاء الله تعالى في فن البيان عند الكلام على الاستعارة بالكناية.
«تنبيه»: ذكر بعض المؤلفين «مبحث المجاز العقلي والحقيقة الفعلية» في أحوال الإسناد من علم المعاني، وبعضهم ذكرهما في فن البيان عند تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز، ولكلٍّ وجهة.