في المسند وأحواله١
المسند: هو الخبر، والفعل التام، واسم الفعل، والمبتدأ، الوصف المستغني بمرفوعه عن الخبر، وأخبار النواسخ، والمصدر النائب عن الفعل.
وأحواله هي: الذكر، والحذف، والتعريف، والتنكير، والتقديم، والتأخير، وغيرها. وفي هذا الباب ثلاثة مباحث:
(١) المبحث الأول: في ذكر المسند أو حذفه
- (١)
ككون ذكره هو الأصل، ولا مقتضى للعدول عنه، نحو: العلم خير من المال.
- (٢)
وكضعف التعويل على دلالة القرينة، نحو: حالي مستقيم ورزقي ميسور «إذ لو حُذف «ميسور» لا يدل عليه المذكور».
- (٣) وكضعف تنبُّه السامع، نحو: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ «إذ لو حُذف «ثابت» رُبما لا يتنبَّه السامع لضعف فهمه».
- (٤) وكالرد على المخاطب، نحو: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ جوابًا لقوله تعالى: مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ.
- (٥) وكإفادة أنه «فعل» فيفيد التجدد والحدوث، ومقيَّدًا بأحد الأزمنة الثلاثة بطريق الاختصار، أو كإفادة أنه «اسم» فيفيد الثبوت مطلقًا، نحو: يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ؛ فإنَّ «يخادعون» تفيد التجدد مرة بعد أخرى، مقيَّدًا بالزمان من غير افتقار إلى قرينة تدل عليه كذكر «الآن أو الغد» وقوله: ووَهُوَ خَادِعُهُمْ تفيد الثبوت مطلقًا من غير نظر إلى زمان.
- (١)
منها: إذا دلت عليه «قرينة» وتعلَّق بتركه غرض ممَّا مرَّ في حذف المسند إليه.
والقرينة: (أ) إمَّا مذكورة، كقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ أي: خلقهن الله.(ب) وإما مقدَّرة، كقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ … أي: يسبِّحه رجال، كأنه قيل: من يسبِّحه؟ - (٢) ومنها الاحتراز عن العبث، نحو أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ أي: ورسوله بريء منهم أيضًا، فلو ذكرهذا المحذوف لكان ذكره عبثًا لعدم الحاجة إليه.
- (٣)
ومنها ضيق المقام عن إطالة الكلام، كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بماعندك راضٍ والرأي مختلف«أي: نحن بما عندنا راضون، فحذف لضيق المقام».
- (٤) ومنها اتباع ومجاراة ما جاء في استعمالاتهم «الواردة عن العرب» نحو: لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ «أي: لولا أنتم موجودون»، وقولهم في المثل: «رمية من غير رامٍ» (أي: هذه رمية).
تمرين
- (١) نحو: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
- (٢)
وقال عليه الصلاة والسلام: «علامة المؤمن ثلاث: إذا حدَّث صدق، وإذا وعد وفى، وإذا اؤتمن لم يخن.»
- (٣)
وقال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وإنما لك من مالك ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأبقيتَ.»
- (٤)
وقال: «إنَّ أَحبَّكم إليَّ وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسِنُكم أخلاقًا، الموطئون أكنافًا، الذين يَألفون ويُؤلفون.»
- (٥)
وقال أبو العتاهية:
جزى الله عني صالحًا بوفائهوأضعف أضعافًا له في جزائهصديقٌ إذا ما جئت أبغيه حاجةرجعت بما أبغي، ووجهي بمائه - (٦)
وقال أبو نواس:
إذا لم تزُرْ أرض الخصيب ركابنافأي فتًى بعد الخصيب تزورفتًى يشتري حسن الثناء بمالهويعلم أن الدائرات تدورفإن تولني منك الجميل فأهلهوإلا فإني عاذر وشكور - (٧)
وقال البحتري يمدح الفتح بن خاقان:
رزين إذا القوم خفت حلومهموقور إذا ما حادث الدهر أجلبافتًى لم يضيع وجه حزم ولم يَبِتْيلاحظ أعجاز الأمور تَعقُّبا - (٨)
وقال الشاعر:
مَنْ قاسَ جدواك يومًابالسُّحْب أخطأ مَدْحَكالسُّحْبُ تُعطي وتبكيوأنت تُعطي وتضحك - (٩)
وقال المتنبي:
ولما صار ودُّ الناس خِبًّاجَزَيْتُ على ابتسامٍ بابتسامِوصرتُ أشك فيمن أصطفيهلعلمي أنه بعضُ الأنامِ - (١٠)
وقال:
لولا المشقة ساد الناس كلهمالجود يفقر والإقدام قتَّال - (١١)
وقال أبو فراس:
لا تطلبن دنوَّ دارمن خليل أو معاشِرْأَبْقَى لأسباب المودةِ أن تزور ولا تعاشِرْ
تدريب
عيِّن أسباب الذكر في الأمثلة الآتية:
-
(١)
قال الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.
-
(٢)
وقال مروان بن أبي حفصة يمدح معن بن زائدة:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهمأسود لها في بطن خفان أشبُلهم يمنعون الجار حتى كأنمالجارهم بين السِّماكين منزل -
(٣)
وقال السَّمَوْءَل بنُ عادِيَاء:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عِرْضُهفكلُّ رداء يرتديه جميلوإن هو لم يحمل على النفس ضَيْمَهافليس إلى حسن الثناء سبيلُ -
(٤)
وقال أبو العتاهية:
إذا أنت لم تشرب مِرارًا على القَذَىظَمِئْتَ وأيُّ الناس تَصْفو مشاربُه -
(٥)
وقال الشاعر:
الجِدُّ يدني كلَّ أمر شاسعوالجد يفتح كل باب مغلق
تمرين
-
(١)
قال الله تعالى: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا.
-
(٢)
وقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى.
-
(٣)
وقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى.
-
(٤)
وقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
(٢) المبحث الثاني: في تعريف المسند أو تنكيره
(٢-١) تعريف المسند
لإفادة السامع حكمًا على أمر معلوم عنده بأمر آخر مثله بإحدى طرق التعريف، نحو: هذا الخطيب، وذاك نقيب الأشراف.
ولإفادة قصره على المسند إليه «حقيقة» نحو: «سعد الزعيم» إذا لم يكن زعيم سواه، أو «ادعاء» مبالغة لكمال معناه في المسند إليه، نحو «سعد الوطني»؛ أي الكامل الوطنية، فيخرج الكلام في صورة توهم أن الوطنية لم توجد إلا فيه؛ لعدم الاعتداد بوطنية غيره.
- (١)
لقصد إرادة العهد أو الحصر، نحو: أنت أمير، وهو وزير.
- (٢)
ولاتباع المسند إليه في التنكير، نحو: تلميذ واقف بالباب.
- (٣) ولإفادة التفخيم، نحو: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ.
- (٤)
ولقصد التحقير، نحو: ما خالد رجلًا يُذكر.
(٣) المبحث الثالث: في تقديم المسند أو تأخيره
يقدم المسند إذا وُجد باعث على تقديمه، كأن يكون عاملًا، نحو: قام علي.
أو مما له الصدارة في الكلام، نحو: أين الطريق؟
- (١) منها التخصيص بالمسند إليه، نحو: لِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
- (٢)
ومنها التنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت، كقوله:
له همم لا منتهى لكبارهاوهمته الصغرى أجلُّ من الدهرله راحة لو أن مِعشار جودهاعلى البر كان البر أندى من البحرفلو قيل: «همم له» لتوهم ابتداء كون «له» صفة لما قبله.
- (٣) ومنها التشويق للمتأخر إذا كان في المتقدم ما يشوق لذكره، كتقديم المسند في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وكقوله:خير الصنائع في الأنام صنيعةتنبو بحاملها عن الإذلال
- (٤)
ومنها التفاؤل: كما تقول للمريض: «في عافية أنت»، وكقوله:
سَعِدَتْ بِغُرَّةِ وجهِكَ الأيامُوتزَيَّنَتْ بِلقائكَ الأعوامُ - (٥) ومنها إفادة قصر المسند إليه على المسند، نحو: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ «أي دِينكم مقصور عليكم، ودِيني مقصور عليَّ».
- (٦)
ومنها المساءة نكاية بالمخاطب، كقول المتنبي:
ومِن نَكَدِ الدنيا على الحُرِّ أن يرىعدوًّا له ما من صداقته بدُّ - (٧)
ومنها تعجيل المسرة للمخاطب، أو التعجب، أو التعظيم، أو المدح، أو الذم، أو الترحم، أو الدعاء، نحو: لله دَرُّك، وعظيم أنت يا ألله، ونعم الزعيم سعد، وهلم جرًّا.
وبئس الرجل خليل، وفقير أبوك، ومبارك وصولك بالسلامة.
ويؤخر المسند؛ لأنَّ تأخيره هو الأصل، وتقديم المسند إليه أهم، نحو: الوطن عزيز.
وينقسم المسند من حيث الإفراد وعدمه إلى قسمين: مفرد وجملة.
فالمسند «المفرد» قسمان: فعل، نحو: قدم سعد؛ واسم، نحو: سعد قادم.
- (١)
أن يكون سببيًّا، نحو: خليل أبوه منتصر، أو أبوه انتصر، أو انتصر أبوه.
- (٢)
وأن يقصد تخصيص الحكم بالمسند إليه، نحو: أنا سعيت في حاجتك (أي: الساعي فيها أنا لا غيري).
- (٣)
وأن يقصد تأكيد الحكم، نحو: سعد حضر؛ وذلك لما في الجملة من تكرار الإسناد مرتين.
ويؤتى بالمسند ظرفًا للاختصار، نحو: خليل عندك.
وجارًّا ومجرورًا، نحو: محمود في المدرسة.
تمرين
بيِّن أسباب التقديم والتأخير فيما يأتي:
(٧) وقال الله تعالى: بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
(١) قُدِّم حرف النفي وهو «ما» على لفظ العموم وهو «كل» ليدل على عموم السلب، والمعنى: لا يكفيك جميع ما على الأرض إذا كنت طامعًا.
(٢) إذا كان المسند فعلًا منفيًّا، ووسط المسند إليه بين الفعل وحرف النفي كما في هذا المثال وهو: «ما أنا قلت» دل ذلك على التخصيص، والمعنى: لست القائل لذلك الشعر وحدي، بل شاركني فيه غيري. ولذلك يعد من الخطأ الذي لا يستقيم معه معنًى أن تقول: «ما أنا فعلت هذا ولا غيري»؛ لأن معنى: «ما أنا فعلت» يفيد من نفسه نفي الفعل عنك وثبوته لغيرك. فقولك: «ولا غيري» يكون تناقضًا كما سبق بيانه.
(٣) قُدِّم الجار والمجرور في قوله: «بالحلم سد» ليدل على التخصيص؛ أي: إنك تسود بالحلم لا بغيره، وكذا إذا تقدم الظرف، وما أشبههما، مما رتبته التأخير كما سلف.
(٤) قُدِّم العدد؛ وهو ثلاثة، وأُخِّر المعدود؛ ليشوق إليه؛ لأن الإنسان إذا سمع العدد مجموعًا يشتاق إلى تفصيل آحاده.
(٥) قُدِّم الجار والمجرور بعد الاستفهام في قوله: «أفي الحق أن يعطى» ليدل على أن ذلك المقدم هو محط الإنكار، فتحليل المعنى أنه لا ينكر الإعطاء، ولكنه ينكر أن يعد ذلك حقًّا وصوابًا مع حرمانه هو.
(٦) قُدِّم أداة العموم على أداة السلب في قوله: «كلٌّ ليس يعدو» ليدل على عموم السلب؛ أي أن الناس واحدًا واحدًا يشملهم حكم الموت ولا مفر منه.
(٧) قُدِّم المفعول على الفعل في قوله: اللهَ فَاعْبُدْ ليدل على التخصيص؛ أي: اعبد الله ولا تعبد غيره.
(٨) قُدِّم الجار والمجرور على الفعل في قوله: «بك اقتدت» ليدل على التخصيص؛ أي أن الاقتداء كان بك لا بغيرك.
تطبيق عام على أحوال المسند
«لما صدِئَت مرآةُ الجنان قصدت لجلائها بعض الجنان» الجملة الشرطية لا تعتبر إلا بجوابها وهو «قصدت» وهي خبرية فعلية من الضرب الابتدائي، والمراد بها أصل الفائدة، المسند قصد، ذُكر؛ لأن ذكره الأصل، وقُدم لإفادة الحدوث في الزمن الماضي مع الاختصار، والمسند إليه التاء، ذُكر؛ لأن الأصل فيه ذلك، وأُخِّر لاقتضاء المقام تقديم المسند، وعرف بالإضمار لكون المقام للتكلم مع الاختصار.
«كأنه الكوثر الفياض» جملة خبرية اسمية من الضرب الابتدائي، والمراد بها المدح، فهي تفيد الاستمرار بقرينة المدح. المسند إليه الهاء، ذُكِّر وقُدِّم؛ لأن الأصل فيه ذلك، وعُرِّف بالإضمار لكون المقام للغيبة مع الاختصار، والمسند الكوثر ذكر وأخر؛ لأن الأصل فيه ذلك، وعُرِّف بأل للعهد الذهني.
«كتاب في صحائفه حكم» التنكير في هذه الجملة للتعظيم.
«ما هذا الرجل إنسانًا» نكر المسند «إنسانًا» للتحقير.
«له همم لا منتهى لكبارها» المسند له قُدم لإفادة أنه خبر من أول الأمر، فإنه لو تأخر لتُوُهِّم أنه صفة المسند إليه؛ لأنه نكرة.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ قدم المسند «كفوًا» على المسند إليه «أحد» للمحافظة على الفاصلة على رأي بعضهم، والمنصوص عليه في كتب التفسير المعتبرة أن التقديم للمبادرة إلى نفي المثل.
«زهرة العلم أنضر من زهرة الروضة» جملة خبرية اسمية من الضرب الابتدائي، يُراد بها الاستمرار بقرينة المدح. المسند إليه زهرة العلم، ذكر عدم لأن الأصل فيه ذلك، وعُرف بالإضافة إلى العلم لتعظيمه، والمسند أنضر، ذُكر وأُخر؛ لأن الأصل فيه ذلك، ونكر لتعظيمه.
«غلامي سافر – أخي ذهبت جاريته – أنا أحب المطالعة – الحق ظهر – الغضب آخره ندم.» أُتي بالمسند في هذه المثل جملة لتقوية الحكم لما فيها من تكرار الإسناد.
أسئلة على أحوال المسند يُطلب أجوبتها
ما هو المسند؟ ما هي أحواله؟ لأي شيء يُذكر المسند؟ لأي شيء يُحذف؟ لِمَ يُقدم؟ لِمَ يُؤخر؟ لِمَ يُعرَّف؟ لم يُنكَّر؟ لِمَ يُؤتى به جملة؟
هوامش
ومبحث الذكر لم يتعرض له كثير كأبي هلال العسكري، والإمام عبد القاهر، ولعله يتعلق كثيرًا بالنحو لا بالبلاغة.