في الإيجاز والإطناب والمساواة
- أولًا: إذا جاء التعبير على قدر المعنى، بحيث يكون اللفظ مساويًا لأصل ذلك المعنى، فهذا هو «المساواة»، وهي الأصل الذي يكون أكثر الكلام على صورته، والدستور الذي يُقاس عليه.
- ثانيًا: إذا زاد التعبير على قدر المعنى لفائدة، فذاك هو «الإطناب»، فإن لم تكن الزيادة لفائدة فهي حشو أو تطويل.
- ثالثًا: إذا نقص التعبير على قدر المعنى الكثير، فذلك هو «الإيجاز».٢
فتارة «يُوجز» وتارة «يُسهب» وتارة يأتي بالعبارة «بين بين».
ولا يعد الكلام في صورة من هذه الصور بليغًا، إلا إذا كان مطابقًا لمقتضى حال المخاطب، ويدعو إليه موطن الخطاب.
فإذا كان المقام للإطناب مثلًا، وعدلت عنه إلى الإيجاز أو المساواة، لم يكن كلامك بليغًا، وفي هذا الباب ثلاثة مباحث.
(١) المبحث الأول: في الإيجاز وأقسامه
وكقوله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وكقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات.»
فإذا لم تفِ العبارة بالغرض سُمي «إخلالًا وحذفًا رديئًا» كقول اليشكري:
مراده: أن العيش الناعم الرَّغد في حال الحمق والجهل خير من العيش الشاق في حال العقل، لكن كلامه لا يعد صحيحًا مقبولًا.
ﻓ «إيجاز القصر» (ويُسمى إيجاز البلاغة) يكون بتضمين المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة من غير حذف، كقوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ.
فالقصاص: هو سبب ابتعاد الناس عن القتل، فهو الحافظ للحياة.
وهذا القسم مطمح نظر البلغاء، وبه تتفاوت أقدارهم، حتى إن بعضهم سُئل عن «البلاغة» فقال: هي «إيجاز القصر».
وقال أكثم بن صيفي خطيب العرب: «البلاغة الإيجاز.»
و«إيجار الحذف» يكون بحذف شيء من العبارة لا يخِلُّ بالفهم، عند وجود ما يدل على المحذوف من قرينة لفظية أو معنوية.
- (١) حرفًا، كقوله تعالى: وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أصله: ولم أكن.٦
- (٢) أو اسمًا مضافًا، نحو: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ أي: في سبيل الله.
- (٣) أو اسمًا مضافًا إليه، نحو: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ أي: بعشر ليالٍ.
- (٤) أو اسمًا موصوفًا، كقوله تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ أي: عملًا صالحًا.
- (٥) أو اسمًا صفة، نحو: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ؛ أي: مضافًا إلى رجسهم.
- (٦) أو شرطًا، نحو: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ؛ أي: فإن تتبعوني.
- (٧) أو جواب شرط، نحو: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ؛ أي: لرأيت أمرًا فظيعًا.
- (٨) أو مسندًا، نحو: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ؛ أي: خلقهن الله.
- (٩)
أو مسندًا إليه، كما في قول حاتم:
أماويُّ ما يغني الثراء عن الفتىإذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدرأي: إذا حشرجت النفس يومًا.
- (١٠) أو متعلقًا، نحو: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ؛ أي: عما يفعلون.
- (١١) أو جملة، نحو: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ؛ أي: فاختلفوا فبعث.
- (١٢) أو جملًا، كقوله تعالى: فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ٧ أي: فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا، فأرسلوه فأتاه، وقال له: يوسف أيها الصديق.
واعلم أن دواعي الإيجاز كثيرة: منها الاختصار، وتسهيل الحفظ، وتقريب الفهم، وضيق المقام، وإخفاء الأمر على غير السامع، والضجر والسآمة، وتحصيل المعنى الكثير باللفظ اليسير … إلخ.
ويستحسن «الإيجاز» في الاستعطاف، وشكوى الحال، والاعتذارات والتعزية، والعتاب، والوعد، والوعيد، والتوبيخ، ورسائل طلب الخراج، وجباية الأموال، ورسائل الملوك في أوقات الحرب إلى الولاة، والأوامر والنواهي الملكية، والشكر على النعم.
ومرجعك في إدراك أسرار البلاغة إلى الذوق الأدبي، والإحساس الروحي.
(٢) المبحث الثاني: في الإطناب وأقسامه
الإطناب: زيادة اللفظ على المعنى لفائدة، أو هو تأدية المعنى بعبارة زائدة عن متعارف أوساط البلغاء لفائدة تقويته وتوكيده، نحو: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا؛ أي: كبرتُ.
فإذا لم تكن في الزيادة فائدة يُسمى «تطويلًا» إن كانت الزيادة في الكلام غير متعينة.
ويُسمى «حشوًا» إن كانت الزيادة في الكلام متعينة لا يفسد بها المعنى.
فالتطويل كقول عدي العبادي في جذيمة الأبرش:
فالمَيْن والكذب بمعنًى واحد، ولم يتعين الزائد منهما؛ لأنَّ العطف بالواو لا يفيد ترتيبًا ولا تعقيبًا ولا معية، فلا يتغير المعنى بإسقاط أيهما شئت.
والحشو كقول زهير بن أبي سلمى:
وكل من الحشو والتطويل معيب في البيان، وكلاهما بمعزل عن مراتب البلاغة.
واعلم أن دواعي الإطناب كثيرة: منها تثبيت المعنى، وتوضيح المراد والتوكيد، ودفع الإيهام، وإثارة الحمية؛ وغير ذلك.
- (١) منها: ذكر الخاص بعد العام، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى، وفائدته التنبيه على مزية وفضل في الخاص، حتى كأنه لفضله ورفعته جزء آخر مغاير لما قبله؛ ولهذا خص الصلاة الوسطى «وهي العصر» بالذكر لزيادة فضلها.
- (٢) ومنها: ذكر العام بعد الخاص، كقوله تعالى: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.١١
وفائدته شمول بقية الأفراد، والاهتمام بالخاص لذكره ثانيًا في عنوان عام، بعد ذكره أولًا في عنوان خاص.
- (٣) ومنها: الإيضاح بعد الإيهام؛ لتقرير المعنى في ذهن السامع بذكره مرتين، مرة على سبيل الإيهام والإجمال، ومرة على سبيل التفصيل والإيضاح، فيزيده ذلك نبلًا وشرفًا، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وكقوله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ.فقوله: أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ تفسير وتوضيح ﻟ «ذلك الأمر» المبهم، وفائدته توجيه الذهن إلى معرفته، وتفخيم شأن المبين، وتمكينه في النفس، فأبهمَ في كلمة «الأمر» ثم وضحه بعد ذلك؛ تهويلًا لأمر العذاب.
- (٤)
ومنها: التوشيع، وهو أن يؤتى في آخر الكلام بمثنًّى مفسر بمفردين؛ ليرى المعنى في صورتين، تخرج فيهما من الخفاء المستوحش إلى الظهور المأنوس، نحو: «العلم علمان: علم الأبدان، وعلم الأديان».
- (٥) ومنها: التكرير، وهو ذكر الشيء مرتين أو أكثر لأغراض:
- الأول: التأكيد وتقرير المعنى في النفس، كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ،١٢ وكقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا.
- الثاني: طول الفصل؛ لئلا يجيء مبتورًا ليس له طلاوة، كقوله
تعالى: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ
أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ فكرر «رأيت» لطول
الفصل. ومن هذا قول الشاعر:
وإن امرأ دامت مواثيق عهدهعلى مثل هذا إنه لكريم١٣
- الثالث: قصد الاستيعاب، نحو: قرأت الكتاب بابًا بابًا، وفهمته كلمة كلمة.
- الرابع: زيادة الترغيب في العفو، كقوله تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
- الخامس: الترغيب في قبول النصح باستمالة المخاطب لقبول الخطاب،
كقوله: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا
قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
* يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ
هِيَ دَارُ الْقَرَارِ.
تكرير «يا قوم» تعطيف لقلوبهم؛ حتى لا يشكُّوا في إخلاصه لهم في نصحه.
- السادس: التنويه بشأن المخاطب، نحو: إن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إبراهيم.
- السابع: الترديد، وهو تكرار اللفظ متعلقًا بغير ما تعلق به
أولًا، نحو:
السخيُّ قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة.
البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة.
- الثامن: التلذذ بذكره، نحو قول مروان بن أبي حفصة:
سقى الله نجدًا والسلام على نجدويا حبذا نجد على القرب والبعد
- التاسع: الإرشاد إلى الطريقة المثلى، كقوله تعالى: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى.
- (٦) ومنها: الاعتراض لغرض يقصده المتكلم، وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى — بجملة معترضة أو أكثر لا محل لها من الإعراب.١٤وذلك لأغراض يرمي إليها البليغ غير دفع الإيهام:
- (أ)
كالدعاء، نحو: إني «حفظك الله» مريض.
وكقول عوف بن محلم الشيباني:
إن الثمانين وبُلغتهاقد أحوجت سمعي إلى ترجمان١٥ - (ب)
والتنبيه على فضيلة العلم، كقول الآخر:
واعلم فعلم المرء ينفعهأن سوف يأتي كل ما قُدِّرا - (جـ) والتنزيه، كقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ.
- (د) وزيادة التأكيد، كقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
- (هـ)
والاستعطاف، كقول الشاعر:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبهيا جنتي لرأيت فيه جهنما(و) والتهويل، نحو: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.
- (أ)
- (٧)
ومنها: الإيغال، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة، يتم المعنى بدونها، كالمبالغة في قول الخنساء:
وإن صخرًا لتأتم الهداة بهكأنه علم في رأسه نارفقولها: «كأنه علم» وافٍ بالمقصود، لكنها أعقبته بقولها «في رأسه نار» لزيادة المبالغة، ونحو: قوله تعالى: وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. - (٨) ومنها: التذييل، وهو تعقيب جملة بجملة أخرى مستقلة، تشتمل على معناها؛ تأكيدًا لمنطوق الأولى، أو لمفهومها،١٦ نحو قوله تعالى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا.ونحو قوله تعالى: ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
والتذييل «قسمان»: قسم يستقل بمعناه؛ لجريانه مجرى المثل، وقسم لا يستقل بمعناه؛ لعدم جريانه مجرى المثل.
- فالأول: الجاري مجرى الأمثال؛ لاستقلال معناه، واستغنائه عما
قبله، كقول طَرَفة:
كل خليل قد كنت خاللتهلا ترك الله له واضحَهْكلكم أروغ من ثعلبما أشبه الليلة بالبارحَةْ
- والثاني: غير الجاري مجرى الأمثال؛ لعدم استغنائه عما قبله، ولعدم
استقلاله بإفادة المعنى، كقول النابغة:
لم يُبْقِ جودُك لي شيئًا أؤمِّلهتركتني أصحب الدنيا بلا أمل
فالشطر الثاني مؤكد للأول، وليس مستقلًّا عنه، فلم يجرِ مجرى المثل.
- فالأول: الجاري مجرى الأمثال؛ لاستقلال معناه، واستغنائه عما
قبله، كقول طَرَفة:
- (٩)
ومنها: الاحتراس، ويقال له: التكميل، وهو أن يُؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك الوهم.
فالاحتراس يوجد حيثما يأتي المتكلم بمعنًى يمكن أن يدخل عليه فيه لوم، فيفطن لذلك، ويأتي بما يخلصه، سواء أوقع الاحتراس في وسط الكلام، كقول طرفة بن العبد:
فسقى ديارَك غير مفسدهاصوبُ الربيع وديمةٌ تهمي١٧فقوله: «غير مفسدها» للاحتراس.
أو وقع الاحتراس في آخره، نحو: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ؛ أي: مع حب الطعام، واشتهائهم له، وذلك أبلغ في الكرم، فلفظ «علي حُبِّه» فضلة للاحتراس ولزيادة التحسين في المعنى.وكقول أعرابية لرجل: «أذل الله كل عدو لك إلا نفسك.»
- (١٠)
ومنها: التتميم، وهو زيادة فضلة، كمفعول أو حال أو تمييز أو جار ومجرور، توجد في المعنى حُسنًا بحيث لو حذفت صار الكلام مبتذلًا، كقول ابن المعتز يصف فرسًا:
صببنا عليها «ظالمين» سياطنافطارت بها أيدٍ سراعٌ وأرجلُإذ لو حذف «ظالمين» لكان الكلام مبتذلًا، لا رقة فيه ولا طلاوة، وتوهم أنها بليدة تستحق الضرب.
ويستحسن الإطناب في الصلح بين العشائر، والمدح، والثناء، والذم، والهجاء، والوعظ، والإرشاد، والخطابة في أمر من الأمور العامة، والتهنئة، ومنشورات الحكومة إلى الأمة، وكتب الولاة إلى الملوك لإخبارهم بما يحدث لديهم من مهام الأمور.
وهناك أنواع أخرى من الإطناب، كما تقول في الشيء المستبعد: «رأيته بعيني وسمعته بأذني وذقته بفمي» تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره.
وكقوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ السقف لا يخر طبعًا إلا من فوق، ولكنه دل بقولهم: «من فوقهم» على الإحاطة والشمول.
واعلم أن الإطناب أرجح عند بعضهم من الإيجاز، وحجته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشده إحاطة بالمعاني، ولا يُحاط بالمعاني إحاطة تامة إلا بالاستقصاء والإطناب.
والمختار أن الحاجة إلى كل من الإطناب والإيجاز ماسة، وكل موضع لا يسد أحدهما مكان الآخر فيه، وللذوق السليم القول الفصل في موطن كل منهما.
(٣) المبحث الثالث: في المساواة
ولسنا بحاجة إلى الكلام على المساواة؛ فإنها هي الأصل المقيس عليه، والدستور الذي يُعتمد عليه.
كقوله تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ.
وكقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ.
وكقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ.
وكقوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.»
فإن اللفظ فيه على قدر المعنى، لا ينقص عنه، ولا يزيد عليه.
وكقول طرفة بن العبد:
هذه أمثلة للمساواة، لا يستغني الكلام فيها عن لفظ منه، ولو حُذف منه شيء لأخلَّ بمعناه.
أسئلة على الإيجاز والإطناب والمساواة تُطلب أجوبتها
ما هي المساواة؟ ما هو الإيجاز؟ ما هو الإطناب؟ كم قسمًا للإيجاز؟ ما هو إيجاز القصر؟ ما هو إيجاز الحذف؟ بأي شيء يكون إيجاز الحذف؟ كم قسمًا للإطناب؟ ما هو ذكر الخاص بعد العام؟ ما هو ذكر العام بعد الخاص؟ ما هو الإيضاح بعد الإبهام؟ ما هو التكرار؟ ما هو الاعتراض؟ ما هو الإيغال؟ ما هو التوشيع؟ ما هو التذييل؟ ما هو التكميل؟ ما هو الاحتراس؟ ما هو التتميم؟ ما هو الفرق بين التطويل والحشو؟ ما هي دواعي الإيجاز؟ ما هي دواعي الإطناب؟ كم قسمًا للتذييل؟ أيكون الإطناب بغير هذه الأنواع؟
تطبيق عام على الإيجاز والإطناب والمساواة
«درست الصرف» فيه مساواة؛ لأن اللفظ على قدر المعنى.
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فيه إطناب بالتتميم؛ فإن «على حبه» فضلة لزيادة التحسين في المعنى.
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فيه مساواة.
«المرء بأدبه» فيه إيجاز قصر؛ لتضمن العبارة القصيرة معاني كثيرة.
تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ فيه إيجاز حذف وهو «لا».
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فيه إيجاز حذف جملة.
أي: فضرب فانفلق.
«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» فيه إطناب بالاحتراس.
فيه الإطناب بالتذييل، والجملة الثانية جارية مجرى المثل.
«جوزي المذنب بذنبه، وهل يجازى إلا المذنب؟!» فيه إطناب بالتذييل، وليس جاريًا مجرى المثل.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ فيه إطناب بالاحتراس.
«البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة» فيه إطناب بالترديد.
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى فيه إيجاز حذف مضاف؛ أي: ذا البر.
فيه إطناب بالإيغال؛ فإن «أشنع» مزيدة للترتيب في الاهتمام.
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فيه إيجاز حذف؛ أي: خلطوا عملًا صالحًا بسيئ.
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ فيه إيجاز بحذف الياء، وسبب حذفها أن الليل لما كان غير سارٍ وإنما يسري من فيه نقص منه حرف؛ إشارة إلى ذلك؛ جريًا على عادة العرب في مثل ذلك.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ فيه إيجاز بحذف جملة؛ أي: فعل ذلك.
تمرين
بيِّن الإيجاز، والإطناب، والمساواة، وأقسام كل منها فيما يأتي:
(١) قال الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
(٢) وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
(٣) وقال تعالى: يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.
(٥) فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ.
(٦) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ.
(٩) وقال تعالى: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.
(١٠) وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.
وقال الشاعر:
(١٢) وقال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
وقال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
(١٣) وقل تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ.
(١) في هذه الآية الإطناب بتكثير الجمل، وهذا خلاف الأنواع السابقة؛ وذلك لأنه لما كان الخطاب مع العموم وفيهم الذكي والغبي صرح بخلق أمهات الممكنات الظاهرة؛ ليكون دليلًا على القدرة الباهرة، وذلك بدل أن يقال: «إن في وقوع كل ممكن تساوي طرفاه لآيات للعقلاء».
(٢) فيه إيجاز القصر؛ لأنه قد جمع مكارم الأخلاق.
(٣) أي: سفينة سالمة.
(٤) أي: أنا ابن رجل جلا المشكلات.
(٥) الشرط محذوف؛ أي: إن أرادوا وليًّا فالله هو الولي.
(٦) أي: فاقتدر اصبر.
(٧) أي: لا أبرح.
(٨) «في الحرم» إيغال للزيادة في المبالغة.
(٩) فيه التذييل.
(١٠) احترس بقوله: «وهو مؤمن» عن توهم الإطلاق.
(١١) فيه تذييل جار مجرى الأمثال.
(١٢) في قوله: «من غير سوء» احتراس عن توهم بياض البرص ونحوه.
(١٣) فيه الاعتراض بقوله: «لو تعلمن».
(١٤) في البيت إيجاز احتراس بلفظ «مهيب».
(١٥) في البيت إيجاز؛ أي: وأتيناه على هرم «فساءنا».
(١٦) في البيت إطناب؛ فإن قوله: «متى يذكر له الخير يزدد» تكميل.
هوامش
واعلم أن متعارف أوساط البلغاء هم الذين لم يرتقوا إلى درجة البلغاء، ولم ينحطُّوا إلى درجة البسطاء، فالمساواة: هي الدستور الذي يُقاس عليه كل من الإيجاز والإطناب.
فمن ذلك قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، فهذه الآية قد جمعت مكارم الأخلاق، وانطوى تحتها كل دقيق وجليل؛ إذ في العفو والصفح عمن أساء، وفي الأمر بالمعروف — صلة الأرحام، ومنع اللسان عن الكذب، وغض الطرف عن كل المحارم.
وقوله عز اسمه: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ استوعبت تلك الآية الكريمة أنواع المتاجر، وصنوف المرافق التي لا يبلغها العد، وقوله: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ هاتان كلمتان أحاطتا بجميع الأشياء على غاية الاستقصاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: «المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعوِّدوا كل جسم ما اعتاد.» فقد تضمن ذلك من المعاني الطيبة شيئًا كثيرًا.
وقول الإمام علي كرم الله وجهه: «من استقبل وجوه الآراء عرف وجوه الخطأ.»
وقول بعض الأعراب: اللهم هَبْ لي حقك وأَرْضِ عني خلقك. فسمعه الإمام علي كرم الله وجهه فقال: هذا هو البلاغة.
ومنه قول السموءل:
والسبب فيما له من الحسن والروعة دلالة قليل الألفاظ على كثير المعاني إلى ما فيه من الدلالة على التمكن في الفصاحة والبراعة.
ولذا قال محمد الأمين: «عليكم بالإيجاز؛ فإن له إفهامًا، وللإطالة استبهامًا.» وقال آخر: «القليل الكافي خير من كثير غير شافٍ.»
ويقع إيجاز الحذف كثيرًا في أساليب البلغاء بشرط أن يوجد ما يدل على المحذوف، وإلا كان الحذف رديئًا، والكلام غير مقبول.
إما العقل وحده، نحو: وَجَاءَ رَبُّكَ، وإما العقل مع غيره، نحو: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ؛ أي: تناولها. وإما العادة، نحو: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ؛ أي: في مراودته. وإما الشروع فيه، نحو: «بسم الله الرحمن الرحيم أؤلف» مثلًا. وإما مقارنة الكلام للفعل، كما تقول لمن تزوج: «بالرفاء والبنين»؛ أي: أعرست متلبسًا بالألفة والبنين.
«تنبيه»: حذف الجمل أكثر ما يرد في كلام الله عز وجل؛ إذ هو الغاية في الفصاحة، والنهاية في مراتب البلاغة. واعلم أن كلًّا من الحشو والتطويل يخل ببلاغة الكلام، بل لا يُعد الكلام معها إلا ساقطًا عن مراتب البلاغة كلها.
- الأول: مساواة مع الاختصار، وهي أن يتحرى البليغ في تأدية المعنى أوجز ما يكون من الألفاظ القليلة الأحرف الكثيرة المعاني، كقوله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ وكقوله تعالى: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
- والثاني: مساواة بدون اختصار «ويسمى متعارف الأوساط» وهو تأدية المقصود من غير طلب للاختصار، كقوله تعالى: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ.
والمساواة فن من القول عزيز المثال، تشرأب إليه أعناق البلغاء، لكن لا يرتقي إلى ذراه إلا الأفذاذ؛ لصعوبة المرتقى، وجلال المقصد. والمساواة يعتبرها بعضهم وسطًا بين الإيجاز والإطناب، وبعضهم يدمجها، ولا يعدها قسمًا ثالثًا للإيجاز والإطناب.