في الكناية وتعريفها وأنواعها
واصطلاحًا: لفظ أريد به غير معناه الذي وُضع له، مع جواز إرادة المعنى الأصلي لعدم وجود قرينة مانعة من إرادته، نحو: «زيد طويل النجاد» تريد بهذا التركيب أنه شجاع عظيم، فعدلت عن التصريح بهذه الصفة إلى الإشارة إليها بشيء تترتب عليه وتلزمه؛ لأنه يلزم من طول حمالة السيف طول صاحبه، ويلزم من طول الجسم الشجاعة عادة، فإذًا المراد طول قامته، وإن لم يكن له نجاد، ومع ذلك يصح أن يراد المعنى الحقيقي. ومن هنا يُعلم أن الفرق بين الكناية والمجاز صحة إرادة المعنى الأصلي في الكناية دون المجاز، فإنه ينافي ذلك.
نعم، قد تمتنع إرادة المعنى الأصلي في الكناية؛ لخصوص الموضوع كقوله تعالى: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ وكقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كناية عن تمام القدرة، وقوة التمكن والاستيلاء.
- (١)
كناية عن صفة، كما تقول: «هو ربيب أبي الهول» تكني عن شدة كتمانه لسره، وتعرف كناية الصفة بذكر الموصوف — ملفوظًا أو ملحوظًا — من سياق الكلام.
- (٢)
كناية عن موصوف، كما تقول: «أبناء النيل» تكني عن المصريين و«مدينة النور» تكني عن باريس، وتُعرف بذكر الصفة مباشرة أو ملازمة. ومنها قولهم: «تستغني مصر عن مصب النيل ولا تستغني عن منبعه» كنَّوا بمنبع النيل عن أرض السودان.
ومنها قولهم: «هو حارس على ماله» كنوا به عن البخيل الذي يجمع ماله، ولا ينتفع به.
ومنها قولهم: «هو فتًى رياضي» يكنون عن القوة؛ وهلم جرًّا.
- (٣)
كناية عن نسبه، وسيأتي الكلام عليها فيما بعد.
-
فالقسم الأول: وهو الكناية التي يطلب بها «صفة» هي ما كان المكنى عنه فيها صفة ملازمة
لموصوف مذكور في الكلام.
وهي نوعان:
- (أ) كناية قريبة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير
واسطة بين المعنى المنتقل عنه والمعنى المنتقل إليه، نحو قول
الخنساء في رثاء أخيها صخر:
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا٢
- (ب) وكناية بعيدة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بواسطة أو بوسائط، نحو: «فلان كثير الرماد» كناية عن المضياف. والوسائط: هي الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة الإحراق، ومنها إلى كثرة الطبخ والخبز، ومنها إلى كثرة الضيوف، ومنها إلى المطلوب وهو المِضياف الكريم.
- (أ) كناية قريبة: وهي ما يكون الانتقال فيها إلى المطلوب بغير
واسطة بين المعنى المنتقل عنه والمعنى المنتقل إليه، نحو قول
الخنساء في رثاء أخيها صخر:
-
القسم الثاني: الكناية التي يكون المكني عنه موصوفًا بحيث يكون إما معنًى واحدًا «كموطن
الأسرار» كناية عن القلب، وكما في قول الشاعر:
فلما شربناها ودب دبيبهاإلى موطن الأسرار قلت لها قفي
وإما مجموع معانٍ، كقولك: «جاءني حيٌّ مستوي القامة، عريض الأظفار» (كناية عن الإنسان) لاختصاص مجموع هذه الأوصاف الثلاثة به. ونحو:
ويشترط في هذه الكناية أن تكون الصفة أو الصفات مختصة بالموصوف، ولا تتعداه؛ ليحصل الانتقال منها إليه.
-
القسم الثالث: الكناية التي يراد بها نسبة أمر لآخر — إثباتًا أو نفيًا — فيكون المكني
عنه نسبة، أُسندت إلى ما له اتصال به، نحو قول الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندىفي قبة ضُربت على ابن الحشرج
فإن جعل هذه الأشياء الثلاثة في مكانه المختص به يستلزم إثباتها له.
والكناية المطلوب بها نسبة:- (أ) إما أن يكون ذو النسبة مذكورًا فيها، كقول الشاعر:
اليمن يتبع ظلهوالمجد يمشي في ركابه
- (ب) وإما أن يكون ذو النسبة غير مذكور فيها، كقولك: «خير الناس من ينفع الناس» كناية عن نفي الخبرية عمن لا ينفعهم.
- (أ) إما أن يكون ذو النسبة مذكورًا فيها، كقول الشاعر:
- (١)
فالتعريض لغة: خلاف التصريح.
واصطلاحًا: هو أن يطلق الكلام، ويُشار به إلى معنًى آخر يفهم من السياق، نحو: قولك للمؤذي: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» تعريضًا بنفي صفة الإسلام عن المؤذي. وكقول الشاعر:
إذا الجود لم يرزق خلاصًا من الأذىفلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقيا - (٢)
والتلويح لغة: أن تشير إلى غيرك من بعد.
واصطلاحًا: هو الذي كثرت وسائطه بلا تعريض، نحو:
وما يك فيَّ من عيب فإنيجبان الكلب مهزول الفصيلكنى عن كرم الممدوح بكونه جبان الكلب، مهزول الفصيل، فإنَّ الفكر ينتقل إلى جملة وسائط.
- (٣)
والرمز لغة: أن تشير إلى قريب منك خفية بنحو شفة أو حاجب.
واصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطه، مع خفاء في اللزوم بلا تعريض، نحو: «فلان عريض القفا، أو عريض الوسادة» كناية عن بلادته وبلاهته، ونحو: «هو مكتنز اللحم» كناية عن شجاعته، و«متناسب الأعضاء» كناية عن ذكائه، ونحو: «غليظ الكبد» كناية عن القسوة؛ وهلم جرًّا.
والإيماء أو الإشارة: هو الذي قلَّت وسائطه، مع وضوح اللزوم بلا تعريض، كقول الشاعر:
أَوَما رأيت المجد ألقى رحلهفي آل طلحة ثمَّ لم يتحولكناية عن كونهم أمجادًا أجوادًا بغاية الوضوح.
ومن لطيف ذلك قول بعضهم:
سألت الندى والجود ما لي أراكماتبدَّلْتُما ذلًّا بعِزٍّ مُؤبَّدِوما بال ركن المجد أمسى مهدَّمافقالا: أُصبنا بابن يحيى محمدِفقلت: فهلَّا مِتُّما عند موتهفقد كنتما عبدَيْه في كل مَشْهدِفقالا: أقمنا كي نعزَّى بفقدهمسافة يوم ثم نتلوه في غَدِ
والكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها، وهي أبلغ من الحقيقة والتصريح؛ لأن الانتقال فيها يكون من الملزوم إلى اللازم، فهو كالدعوى ببينة، فكأنك تقول في: «زيد كثير الرماد» زيد كريم؛ لأنه كثير الرماد، وكثرته تستلزم كذا … إلخ.
كيف لا وأنها تمكن الإنسان من التعبير عن أمور كثيرة، يتحاشى الإفصاح بذكرها، إما احترامًا للمخاطب أو للإبهام على السامعين، أو للنيل من خصمه، دون أن يدع له سبيلًا عليه، أو لتنزيه الأذن عما تنبو عن سماعه، ونحو ذلك من الأغراض واللطائف البلاغية.
تمرين
- (١)
قال البحتري يصف قتله ذئبًا:
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلهابحيث يكون اللب والرعب والحقد - (٢)
وقال آخر في رثاء من مات بعلة في صدره:
ودبت له في موطن الحلم علةلها كالصلال الرقش شر دبيب - (٣)
ووصف أعرابي امرأة، فقال: «ترخي ذيلها على عرقوبَيْ نعامة.»
ونحو:
ضربت سرادقها المهابة فوقهفإذا بدا بادت به الأعداءونحو:
إن الذي ملأ اللغات محاسنًاجعل الجمال وسره في الضادونحو:
بنى المجد بيتًا فاستقر عمادهعلينا فأعيا الناس أن يتحولاإن ثوبك الذي المجد فيهلضياء يزري بكل ضياء
(١) ضمير أتبعتها يعود على الطعنة. وأضللت: أخفيت. والنصل: حديدة السيف. واللب والرعب: الفزع والخوف.
واعلم أن الكناية: إما حسنة: وهي ما جمعت بين الفائدة ولطف الإشارة، كما في الأمثلة السابقة. وإما قبيحة: وهي ما خلت عن الفائدة المرادة، وهي معيبة لدى أرباب البيان، كقول المتنبي:
كناية عن النزاهة والعفة، إلا أنها قبيحة؛ لسوء تأليفها، وقبح تركيبها.
(٢) الصلالي: جمع صل بالكسر، ضرب من الحيات صغير أسود، لا نجاة من لدغته. والرقش: جمع رقشاء، وهي التي فيها نقط سوداء في بياض، والحية الرقشاء من أشد الحيات إيذاء.
تمرين آخر
بيِّن أنواع الكنايات الآتية، وبيِّن منها ما يصح فيه إرادة المعنى المفهوم من صريح اللفظ، وما لا يصح:
(١) وصف أعرابي رجلًا بسوء العشرة فقال: كان إذا رآني قرب من حاجب حاجبًا.
(٢) وقال أبو نواس في المديح:
(٦) وتقول العرب في المديح: الكرم في أثناء حلته، ويقولون: «فلان نفخ شدقيه»؛ أي: تكبر، و«ورم أنفه» إذا غضب.
المجد بين ثوبيك، والكرم ملء برديك.
(١) بلاغة الكناية
الكناية مظهر من مظاهر البلاغة، وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه، وصفت قريحته، و«السر في بلاغتها» أنها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها، والقضية وفي طيها بُرهائها، كقول البحتري في المديح:
فإنه كنى عن إكبار الناس للممدوح، وهيبتهم إياه — بغض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإجلال، وتظهر هذه الخاصة جلية في الكنايات عن الصفة والنسبة.
ومن أسباب بلاغة الكنايات أنها تضع لك المعاني في صورة المحسوسات، ولا شك أن هذه خاصة الفنون، فإن المصور إذا رسم لك صورة للأمل أو لليأس بهرَك، وجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه واضحًا ملموسًا.
فمثل: «كثير الرماد» في الكناية عن الكرم، و«رسول الشر» في الكناية عن المزاح.
وقول البحتري:
وذلك في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة.
كل أولئك يبرز لك المعاني في صورة تشاهدها، وترتاح نفسك إليها.
ومن خواص الكناية أنها تمكنك من أن تشفي غلتك من خصمك من غير أن تجعل له إليك سبيلًا، ودون أن تخدش وجه الأدب، وهذا النوع يُسمى بالتعريض.
ومثاله قول المتنبي في قصيدة يمدح بها كافورًا، ويعرِّض بسيف الدولة:
فإنه كنى عن سيف الدولة أولًا بالحبيب المعمم، ثم وصفه بالغدر الذي يدعي أنه من شيمة النساء، ثم لامه على مبادهته بالعدوان، ثم رماه بالجبن؛ لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتار خلف غيره. على أن المتنبي لا يُجازيه على الشر بمثله؛ لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوًى قديمًا، يكسر كفه وقوسه وأسهمه إذا حاول النضال.
ثم وصفه بأنه سيئ الظن بأصدقائه؛ لأنه سيئ الفعل، كثير الأوهام والظنون، حتى ليظن أن الناس جميعًا مثله في سوء الفعل، وضعف الوفاء، فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كله، من غير أن يذكر من اسمه حرفًا.
هذا؛ ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه، وأمثلة ذلك كثيرة جدًّا في القرآن الكريم وكلام العرب؛ فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكناية، وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة ﺑ «البيضة، والشاة».
ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب:
فإننه كنى بالنخلة عن المرأة التي يحبها. (عن البلاغة الواضحة بتصرف)
(١-١) أثر علم البيان في تأدية المعاني
ظهر لك من دراسة علم البيان أن معنًى واحدًا يستطاع أداؤه بأساليب عدة، وطرائق مختلفة، وأنه قد يُوضع في صورة رائعة من صور التشبيه أو الاستعارة، أو المجاز المرسل، أو المجاز العقلي، أو الكناية؛ فقد يصف الشاعر إنسانًا بالكرم، فيقول:
وهذا كلام بليغ جدًّا، مع أنه لم يقصد فيه إلى تشبيه أو مجاز، وقد وصف الشاعر فيه ممدوحه بالكرم، وأن الملوك يريدون أن يبلغوا منزلته، ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل، مع أنه ليس بأغنى منهم، ولا بأكثر مالًا.
وقد يعتمد الشاعر عند الوصف بالكريم إلى أسلوب آخر، فيقول:
فيشبه الممدوح بالبحر، ويدفع بخيالك إلى أن يضاهي بين الممدوح والبحر الذي يقذف الدرر للقريب، ويرسل السحائب للبعيد.
أو يقول:
فيدعي أنه البحر نفسه، وينكر التشبيه نكرانًا يدل على المبالغة، وادعاء المماثلة الكاملة.
أو يقول:
فيرسل إليك التشبيه من طريق خفي؛ ليرتفع الكلام إلى مرتبة أعلى في البلاغة، وليجعل لك من «التشبيه الضمني» دليلًا على دعواه، فإنه ادعى أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه، وأقام على ذلك برهانًا.
فقال: «وكيف تمسك ماء قنة الجبل؟»
أو يقول:
فيقلب التشبيه؛ زيادة في المبالغة، وافتتانًا في أساليب الإجادة، ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان المألوف أن تُشبه النعم بالنهر الفياض.
أو يقول:
فيعمد إلى التشبيه المركب، ويعطيك صورة رائعة، تمثل لك حالة الممدح وهو يجود، وابتسامة السرور تعلو شفتيه.
أو يقول:
فيضاهي بين جود الممدوح والمطر، ويدعي أنَّ كرم ممدوحه لا ينقطع إذا انقطعت الأنواء، أو جمد القطر.
أو يقول:
فيصرح لك في جلاء، وفي غير خشية — بتفضيل جود صاحبه على جود الغيم، ولا يكتفي بهذا، بل تراه ينهى السحاب في صورة تهديد أن يحاول التشبه بممدوحه؛ لأنه ليس من أمثاله ونظرائه.
أو يقول:
يصف حال رسول الروم داخلًا على سيف الدولة، فينزع في وصف الممدوح بالكرم، إلى الاستعارة التصريحية، والاستعارة كما علمت مبنية على تناسي التشبيه، والمبالغة فيها أعظم، وأثرها في النفوس أبلغ.
أو يقول:
فيشبِّه ندى ممدوحه وإحسانه «بإنسان» ثم يحذف المشبه به، ويرمز إليه بشيء من لوازمه، وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التي تُساق الاستعارة لأجلها.
أو يقول:
فيرسل العبارة كأنها مثل، ويصوِّر لك أنَّ من قصد ممدوحه استغنى عمَّن هو دونه، كما أنَّ قاصد البحر لا يأبه للجداول، فيعطيك استعارة تمثيلية لها روعة، وفيها جمال، وهي فوق ذلك تحمل برهانًا على صدق دعواه، وتؤيِّد الحال الذي يدَّعيها.
أو يقول:
فيعدل عن التشبيه والاستعارة إلى «المجاز المرسل» ويطلق كلمة «يد» ويريد بها النعمة؛ لأن اليد آلة النعم وسببها.
أو يقول:
فيسند الفعل إلى اليوم وإلى الجود على طريقة المجاز العقلي.
أو يقول:
فيأتي بكناية عن نسبة الكرم إليه، بادِّعاء أن الجود يسير معه دائمًا؛ لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم ادعى أن الكرم يسير معه أينما سار.
ولهذه الكناية من البلاغة، والتأثير في النفس، وحسن تصوير المعنى — فوق ما يجده السامع في غيرها من بعض ضروب الكلام.
فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوبًا، كلٌّ له جماله، وحسنه، وبراعته، ولو نشاء لأتينا بأساليب كثيرة أخرى في هذا المعنى؛ فإن للشعراء ورجال الأدب افتتانًا وتوليدًا للأساليب والمعاني لا يكاد ينتهي إلى حد، ولو أردنا لأوردنا لك ما يقال من الأساليب المختلفة المناحي في صفات أخرى: كالشجاعة، والإباء، والحزم وغيرها، ولكنَّا لم نقصد إلى الإطالة، ونعتقد أنك عند قراءتك الشعر العربي والآثار الأدبية ستجد بنفسك هذا ظاهرًا، وستدهش للمدى البعيد الذي وصل إليه العقل الإنساني في التصوير البلاغي، والإبداع في صوغ الأساليب. (عن البلاغة الواضحة بتصرف)
هوامش
إما أن يكون معناه الأصلي مقصودًا أيضًا؛ ليكون وسيلة إلى المراد.
وإما ألا يكون مقصودًا، فالأول الكناية، والثاني المجاز.
فالكناية: هي أن يريد المتكلم إثبات معنًى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له، ولكن يجيء إلى معنًى هو مرادفه، فيومئ به إلى المعنى الأول، ويجعله دليلًا عليه.
أو الكناية: هي اللفظ الدال على ما له صلة بمعناه الوضعي؛ لقرينة لا تمنع من إرادة الحقيقة «كفلان نقي الثوب»؛ أي: مبرأ من العيب، وكلفظ «طويل النجاد» المراد به طول القامة، فإنه يجوز أن يراد منه طول النجاد؛ أي علاقة السيف أيضًا، فهي تخالف المجاز من جهة إمكان إرادة المعنى الحقيقي مع إرادة لازمة، بخلاف المجاز فإنه لا يجوز فيه إرادة المعنى الحقيقي لوجود القرينة المانعة من إرادته.
ومثل ذلك قولهم: «كثير الرماد» يعنون به أنه كثير القرى والكرم.
وقول الحضرمي:
وقولهم: «المجد بين ثوبيه والكرم بين برديه».
وقوله:
وقد جاء عن العرب كنايات كثيرة؛ كقوله:
ونظر البديع الهمذاني إلى رجل طويل بارد فقال: قد أقبل ليل الشتاء. ودخل رجل على مريض يعوده وقد اقشعر من البرد فقال: ما تجد «فديتك؟» قال: أجدك (يعني البرد). وإذا كان الرجل ملولًا قيل: هو من بقية قوم موسى. وإذا كان ملحدًا قيل: قد عبر (يريدون جسر الإيمان). وإن كان يسيء الأدب في المؤاكلة قيل: «تسافر يده على الخوان ويرعى أرض الجيران.» ويقال عمن يُكثر الأسفار: «فلان لا يضع العصا عن عاتقه.»
وجاء في القرآن الكريم: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فإنه كنى الغيبة بأكل الإنسان لحم الإنسان، وهذا شديد المناسبة؛ لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم، وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه.
ومن أمثال العرب قولهم: «ليست لفلان جلد النمر وجلد الأرقم» كناية عن العداوة. وكذلك قولهم: «قلبت له ظَهْر الْمِجَنِّ» كناية عن تغيير المودة. ويقول القوم: «فلان بريء الساحة» إذا برءوه من تهمة، و«رحب الذراع» إذا كان كثير المعروف، و«طويل الباع في الأمر» إذا كان مقتدرًا فيه، و«قوي الظهر» إذا كثر ناصروه.
ومن ذلك أن «المنصور» كان في بستان له أيام محاربته «إبراهيم بن عبد الله بن الحسن» فنظر إلى شجرة خلاف فقال للربيع: ما هذه الشجرة؟ فقال: طاعة يا أمير المؤمنين. فتفاءل المنصور به، وعجب من ذكائه. ومثل ذلك أن رجلًا مر في صحن دار «الرشيد» ومعه حزمة خيزران، فقال الرشيد للفضل بن الربيع: ما ذاك؟ فقال: «عروق الرماح» يا أمير المؤمنين. وكره أن يقول «الخيزران» لموافقته اسم «والدة الرشيد». ومن كلامهم: «فلان طويل الذيل» يريدون أنه غني حسن الحال.
وعليه قول الحريري:
قال امرؤ القيس:
ومن كناياتهم عن الموت: «استأثر الله به» و«أسعده بجواره» و«نقله إلى دار رضوانه ومحل غفرانه» و«اختار له النُّقْلة من دار البَوَار إلى دار الأبرار».
ومن الكنايات أيضًا أن يقام وصف الشيء مقام اسمه، كما ورد في القرآن الكريم: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ يعني السفينة، فوضع صفتها موضع تسميتها. كما ورد إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ يعني الخيل.
وقال بعض المتقدمين: