رحلات الفضاء المأهولة بعد الحرب الباردة
كان العنصران الفاعلان الجديدان في هذا المجال هما الصين وأصحاب الاستثمارات الخاصة. وبعد مرور عام على إرسال الصين أول رائدٍ إلى الفضاء، فازت طائرة صاروخية مُموَّلة من القطاع الخاص بجائزة أول مركبة غير حكومية تَطير مرتَين في غضون أسبوعَين فوق ١٠٠ كيلومتر (٦٢٫١ ميل)، وهو التعريف المقبول على نطاقٍ واسع لمكان بدء الفضاء. وبدا أنَّ السياحة الفضائية تحت المدارية على وشك أن تُصبح حقيقةً واقعة، لولا أنه لم يسافر أيُّ سائح حتى الآن، باستثناء عددٍ قليل من أصحاب الملايين الذين دفعوا للروس من أجل الحصول على مقاعد في مركبة «سويوز» التي نقلت أطقمًا إلى محطة الفضاء الدولية. هناك العديد من الدلائل في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على محاولة القيام برحلاتٍ سياحية فضائية دون مدارية والقيام برحلاتٍ مأهولة لسطح القمر في القريب، لكن مرور ثلاثة عقودٍ بعد عام ١٩٨٩ أوضح أنه بدون القوة الدافعة إلى سباقٍ فضائي، فإن رحلات الفضاء المأهولة قد لاقت الكثير من العراقيل، ولم يُبقِ عليها إلَّا الإنذاراتُ الجغرافية السياسية والحاجة إلى الحفاظ على الوظائف والبنية التحتية التي شُيِّدَت بعد «سبوتنيك».
مكوك الفضاء ومحطَّات الفضاء
ومن المفارقات أنَّ خلاص محطة «فريدم» الفضائية جاء من خلال الاندماج مع برنامج العدو السابق. كان السوفييت قد أطلقوا محطة «مير» في الفضاء عام ١٩٨٦، وهي تطوُّر أكثر تعقيدًا ومرونة لمحطات «ساليوت» المَدنية. تضمَّنت المحطة محول إرساء مُتعدِّد سمح بإضافة المزيد من الوحدات على مدى السنوات القليلة المقبلة، مُتيحًا إقامةً أطولَ لرواد الفضاء وتجارِب علمية أكثر تعقيدًا. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي في عام ١٩٩١ أدَّى إلى تخفيضات شديدة في الميزانية لجميع الإدارات الحكومية، بما في ذلك برنامج الفضاء المأهول. وأُلغيَت نسخة سوفييتية من المكوك تُسمَّى «بوران» (وتعني بالعربية «عاصفة الثلج») بعد رحلةٍ واحدة بدون طيار في عام ١٩٨٨، كما أُلغي الصاروخ السوفييتي المعزِّز الذي كان يُضاهي الصاروخ «ساتورن ٥» والذي أُطلِق عليه «إنرجيا» ولم يكن قد أُطلِق إلا هذا المكوك وقام باختبارٍ فاشل في عام ١٩٨٧. وأُجِّلَ إحلال محطة «مير» الفضائية القديمة، ولم يكن لدى وكالة الفضاء الروسية روسكوزموس، التي تأسَّست في عام ١٩٩٢ لمنح المنظَّمات الغربية شريكًا، سوى القليل من المال، كما لم تكن تتمتَّع بسلطةٍ على قوات الفضاء العسكرية أو مكاتب التصميم القوية التي تتمُّ خصخصتُها وتحويلها إلى شركاتٍ خاصة.
أجبرت الفجوة التي استمرَّت عامَين في الرحلات المكوكية شركاء محطة الفضاء الدولية على تقليص عدد أفراد الطاقم إلى شخصَين ينتقِلان على متن مركبة فضاء «سويوز» على أن يتمَّ إمدادهما بما يحتاجانه بواسطة مركبات «بروجرس» فقط (مركبة «سويوز» آلية حَملت فيها الوحدة المدارية الإمدادات وأحلَّت خزَّانات الوقود محلَّ كبسولة العودة من أجل تزويد المحطة بالوقود). على أية حال، بمجرد استئناف عمليات الإطلاق الأمريكية في عام ٢٠٠٥، توسَّعت المحطة بسرعةٍ إلى حجمها الأقصى المُخطَّط، بطول ٣٥٦ قدمًا (١٠٩ أمتار) وعرض ٢٣٩ قدمًا (٧٣ مترًا) عبر أربعة مصفوفاتٍ كهربائية مزدَوَجة للطاقة الشمسية تُولِّد ٨٤ كيلووات من الطاقة، مع كتلةٍ إجمالية أرضية تبلغ ٩٢٥٠٠٠ رطل (٤٢٠٠٠٠كجم). ويتألَّف طاقم المحطة عادةً من ثلاثة روس وأمريكيَّين ورائد فضاء من أوروبا أو كندا أو اليابان. إنَّ هذه المحطة تُعتبَر، وربما ستظلُّ لفترةٍ طويلة جدًّا من الوقت، أكبر جسمٍ من صنع البشر يوضع في الفضاء. ومن أبرز الأشياء التي تتميَّز بها محطة الفضاء الدولية أنها نجحت في القيام بعملها، على الرغم من إنتاجها المُتعدِّد الجنسيات. كانت هناك مشاكل وأزمات في التجميع، ومن أبرزها تلَفُ إحدى المصفوفات الشمسية وقد تطلَّب ذلك عمليات سيرٍ محفوفة بالمخاطر للروَّاد في الفضاء من أجل إصلاحها، ولكن جميع الوحدات والمكوِّنات تعمل بشكلٍ جيِّد معًا، وهو انتصار لإدارة المشروع الدولية.
على الرغم من أن محطة الفضاء الدولية كانت ناجحةً من الناحية التقنية، إلا أنَّ التكاليف كانت ضخمةً وكانت عملية الوصول إليها تُعاني من الهدْر والتأخير. ويُقدَّر مشروع المحطة بالكامل حتى الآن بحوالي ١٥٠ مليار دولار، وهو حجم الإنفاق بناءً على السعر المعدَّل حسب التضخُّم لبرنامج «أبولُّو» (الذي بلغَت تكلفتُه ٢٥ مليار دولار في الستينيَّات). تمَّ إنفاق ما يقرُب من ثلاثة أرباع ذلك من قِبَل الولايات المتحدة، خاصة عندما يتمُّ تضمين عمليات إطلاق المكوك إلى المحطة بسعرٍ يتجاوز مليار دولار لكلِّ عملية إطلاق (وهذه التكلفة كبيرة جدًّا بالوضع في الاعتبار أنَّ السبب الأساسي لبناء المكوك هو جعل رحلات الفضاء أرخص).
هل محطة الفضاء الدولية تستحقُّ هذه التكلفة الضخمة؟ لم يمرَّ وقتٌ كافٍ لإصدار حُكمٍ كامل، ولكن هناك بعض الإيجابيات والسلبيات الواضحة. كتمرينٍ على تطوير مشروع فضاء متعدِّد الجنسيات يمكن أن يكون نموذجًا لرحلاتٍ أعمق في النظام الشمسي، كانت محطة الفضاء الدولية ناجحةً للغاية. وكوسيلةٍ لفهم التأثيرات الفسيولوجية لرحلات الفضاء الطويلة الأمد اللازمة للسفر إلى القمر أو المريخ، فقد كانت قيِّمة جدًّا، على الرغم من أنَّ الشركاء لو بَنَوا محطةً أصغر مخصَّصة لهذا الغرض، ربما مع طاقم يتكوَّن من ثلاثة روَّاد فضاء بدلًا من ستة، كانت التكلفة ستكون أقلَّ بكثير. كمنصَّة علمية، تستضيف محطة الفضاء الدولية المُكتملة مجموعة متنوعة للغاية من التجارِب في الطب ومعالجة المواد المنعدِمة الجاذبية ومراقبة الأرض وحتى فيزياء الجسيمات (تمَّ إرفاق مطياف ألفا المغناطيسي بقيمة مِليارَي دولار إلى المحطة للبحث عن المادة المُظلمة، ولكن ليس له أي علاقة برُوَّاد الفضاء في الداخل). ومع ذلك، إذا كان العِلم هو الأساسَ المنطقي الوحيد لمحطة الفضاء الدولية، فإنَّ النتائج تُعتبَر ضئيلةً للغاية والتكاليف باهظة للغاية لتبرير بنائها.
كما هو الحال دائمًا مع رحلات الفضاء المأهولة، فإنَّ محطة الفضاء الدولية تتعلَّق بالسياسة العالمية والمحلية أكثر من العِلم. وبينما تركت روَّاد الفضاء الأمريكيين عالقين في المدار الأرضي المُنخفِض؛ لأن وكالة ناسا لم تكن لدَيها ميزانية للقيام بأي شيءٍ آخر، فقد حافظت على إمكانيات الوكالة وبِنْيتها التحتية بعد نهاية سباق الفضاء وساعدت في تأكيد مكانة أمريكا بوصفها القوة الفضائية العُظمى. وقد كانت بمثابة شريان الحياة للإبقاء على البرنامج الروسي، ممَّا عزَّز ادِّعاء روسيا بأنها لا تزال دولةً كبرى، وكانت بمثابة آليةٍ لأوروبا وكندا واليابان لبناء قُدرات الفضاء المأهول والخبرة دون الحاجة إلى تطوير أنظمةٍ خاصة بهم لإطلاق واستعادة طواقمهم.
أما بالنسبة إلى برنامج المكوك، فقد انتهى أخيرًا في منتصف عام ٢٠١١، بعد القيام ﺑ ١٣٥ مهمَّة، بمجرَّد تسليم آخر المكوِّنات الرئيسية الأمريكية والأوروبية واليابانية، بالإضافة إلى قطع الغيار الاستراتيجية. وبالنسبة إلى جزءٍ كبير من الجمهور الأمريكي، كانت نهاية المكوك تَعني نهاية وكالة ناسا والأمريكيِّين في الفضاء؛ إذ كان برنامج المكوك هو ناسا من وجهة نظرهم. وبالنسبة إلى الأغلبية، كانت، ولا تزال، البعثات التي تُرسَل إلى محطة الفضاء الدولية غيرَ ذات أهمية، خاصة عندما يتمُّ إطلاقها على الصواريخ الروسية. ومع ذلك، يستمر تشغيل المحطة حتى يومِنا هذا، ومن المُقرَّر أن يستمر حتى عام ٢٠٢٤ على الأقل — وهو العُمر الحاليُّ الذي وَعَد الشركاء الرئيسيون بدعمه.
فاعلون جُدد وبرامج جديدة
في الوقت الذي كافحت فيه وكالات الفضاء الكبرى من أجل استكمال محطة الفضاء الدولية، بدأت العديد من المُبادَرات الجديدة في رحلات الفضاء المأهولة تتشكَّل بعد عام ٢٠٠٠؛ في الصين، وفي السياحة الفضائية الخاصة، وفي مركبات رحلات الفضاء المأهولة التي تُموِّلها وكالة ناسا، وفي شركات الفضاء الأمريكية التي نشأت لتَحدِّي الشركات الصناعية العسكرية من الصواريخ وسباقات الفضاء. وبحلول أواخر العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدا أنَّ عصرًا جديدًا يبزغ في رحلات الفضاء المأهولة، ولم تكن النتائج واضحةً بأيِّ حالٍ من الأحوال.
بدأ برنامج ٩٢١ في عام ١٩٩٢، بعد محاولة سابقة لأوانها لبدء مشروع رحلات فضائية مأهولة في السبعينيات من القرن العشرين. ونتج المشروع الجديد عن جهود الإصلاح التي بذلَها الزعيم دنج شياو بينج لجعل الأمة واقتصادها مُنافسَين للغرب، ولقد كان البرنامج وما زال يُدار من قِبَل الجيش، ولكن على غرار غيره من البرامج السوفييتية، بالتكافُل مع الوكالات المَدنية؛ إذ لا تُوجَد أسباب داخلية أو خارجية للتمييز بوضوحٍ بين الجهود الفضائية المَدنية والعسكرية. انتهز مديرو البرنامج الفرصةَ التي أوجدَها انهيار الاتحاد السوفييتي (حَدَثٌ صَدَم القيادة الشيوعية الصينية وأكَّد الحاجة إلى الإصلاح) من خلال ترخيص بعض تقنيات الفضاء الروسية؛ حيث تبدو المركبة الفضائية «شنتشو» إلى حدٍّ كبير شبيهةً بالمركبة الفضائية «سويوز»، ولكنها أكبر حجمًا ومُحسَّنة. تحتوي وحدة إعادة الدخول أيضًا على طاقمٍ مكوَّنٍ من ثلاثة أفراد، ولكن في مكانٍ أكثر اتِّساعًا، ووُضِعت محلَّ الوحدة المدارية (مقر المعيشة والتجرِبة الإضافي) وحدةٌ صينية بألواحٍ وأنظمةٍ شمسية تسمَح لها بالتحليق بشكلٍ مستقل.
كان إيقاع هذا البرنامج منضبطًا للغاية. بدأت بعثات «شنتشو» في نوفمبر ١٩٩٩ بأول رحلةٍ تجريبية دون طيَّار، تلَتْها ثلاثُ رحلاتٍ أخرى حتى عام ٢٠٠٢. وبعد رحلة يانج المدارية التي استغرقت يومًا واحدًا، لم تنطلِق الرحلة التالية إلا بعد عامَين، وضمَّت رائدَي فضاء، وتلتْها فترة توقُّف بلغت ثلاثة أعوام قبل أنْ تنطلِق «شنتشو ٧» مع ثلاثةٍ من أفراد الطاقم، اثنان منهم قاما بالسير في الفضاء. (كانت بدلاتهما الفضائية أيضًا مبنيةً على تصميماتٍ روسية.) لقد سارت الصين على خُطى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي التي اتَّخذوها في الفترة من ١٩٦١ إلى ١٩٦٥، ولكنها فعلتْ ذلك دون التعجُّل أو البعثات المتعدِّدة لذلك السباق. مرَّت ثلاث سنوات أُخرى قبل أن ترسو مركبة «شنتشو ٨» غير المأهولة مع المحطة المدارية الصغيرة «تيانجونج-١» (التي تعني بالعربية «القصر السماوي ١») وتبِعَها طاقم قام بنفس الشيء بعد ذلك بعام، وكان أحد أفراده أول امرأةٍ صينية تصعد إلى الفضاء. وكانت أحدث بعثةٍ صينية، حتى كتابة هذه السطور، بعثة استمرَّت لمدة ثلاثة وثلاثين يومًا في خريف ٢٠١٦ وضمت طاقمًا مكونًا من ثلاثة روَّاد فضاء على متن «تيانجونج–٢».
أعلنت إدارة الفضاء الوطنية الصينية، التي تأسَّست في عام ١٩٩٣ كوكالةٍ لبيروقراطية المُشتريات الدفاعية المَدنية، عن برنامجٍ لبناء محطةٍ نموذجية بحجم «مير»، ابتداءً من حوالي عام ٢٠٢٠، وبالتالي تحقيق الهدف الأصلي من برنامج ٩٢١. نظرًا إلى ضوابط تصدير التكنولوجيا ومخاوف السرقة، استبعدت الحكومة الأمريكية حتى الآن التعاون النشِط بين وكالة ناسا والصين، ممَّا يجعل برنامجها منفصلًا تمامًا عن محطة الفضاء الدولية وغيرها من المشاريع المُتعدِّدة الجنسيات التي تقودها الولايات المتحدة. لكنَّ الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدًا هو أنَّ الصين ستبني برنامجها المأهول بغضِّ النظر عمَّا يحدُث بخصوص التعاون الدولي.
ومع كشف النقاب عن برنامج ٩٢١، تكشفَّت أيضًا المحاولات الأولى لإنشاء مشاريع خاصَّة لرحلاتٍ فضائية مأهولة ومركباتٍ فضائية. وكانت المحاولة المشئومة لإحياء محطة «مير» مُتجذِّرة في إحباطات دُعاة الفضاء الأمريكيين الذين نشَئوا في الستينيَّات وتساءلوا عن سبب عدم تحقيق الحلم الموعود لقواعد القمَر وبعثات المريخ. وغالبًا ما كانوا ينتقِدون بشدةٍ وكالةَ ناسا وكانوا من أتباع السياسات الليبرالية الرأسمالية الفائقة. أحدُهم كان رائد الفضاء بيتر ديامانديس، الذي أنشأ مؤسَّسة «جائزة إكس»، على غرار جوائز الطيران التي قُدِّمَت بين الحربَين العالميتَين لتحفيز نموِّ تكنولوجيا الطيران. وقد جمع التبرُّعات وراهن رهانًا محفوفًا بالمخاطر على سُوق التأمين، ليقدِّم جائزةً بقيمة ١٠ ملايين دولار لأول مركبةٍ فضائية غير حكومية بطيَّار قادرة على حمْل ثلاثة أشخاص للقيام برحلتَين خلال أسبوعَين فوق ١٠٠ كيلومتر (٦٢٫١ ميل). كان الهدف هو تحفيز السياحة الفضائية الخاصة عند أدنى مستوًى من الصعوبة — ولكنه لا يزال تحديًا ليس سهلًا بأي حالٍ من الأحوال — من خلال الصعود بالرُّكَّاب في المسارات تحت المدارية بما يكفي فقط ليتمكَّنوا من الحصول على مكانة المُسافرين في الفضاء.
في الوقت نفسه، ظهرت السياحة المدارية لأنَّ الروس قرَّروا بيع مقاعد عرضية في المركبة الفضائية «سويوز» التي تتَّجِه إلى محطة الفضاء الدولية. وكانت هناك سوابق؛ إذ صعدت امرأة إنجليزية إلى محطة «مير» في عام ١٩٩١، على الرغم من عدم الحصول على تمويلٍ خاص من بريطانيا، وفي عام ١٩٩٨، دفعت شركة إعلامية يابانية الأموال لإرسال أحد مُراسليها إلى «مير». وفي أبريل ٢٠٠١، أصبح المُستثمِر الأمريكي دنيس تيتو أول من استخدم أمواله الخاصَّة للسفر إلى الفضاء، حيث قام بزيارةٍ إلى محطة الفضاء الدولية رغم اعتراضات وكالة ناسا المتردِّدة. ولم يفعل ذلك سوى ستة آخرين حتى عام ٢٠٠٩، واحد منهم صعد مرتَين إلى الفضاء، وبعد ذلك كانت هناك حاجةٌ إلى شَغْل جميع مقاعد «سويوز» لإرسال روَّاد الفضاء إلى المحطة. وتكلَّفت هذه الرحلات السياحية المدارية ما بين ٢٠ و٤٠ مليون دولار، وكانت تقتصِر على حفنةٍ من الأشخاص اللائقين بدنيًّا والأثرياء الذين تلقَّوا تدريبًا لمدَّةِ أشهُر في المراكز الروسية. وبصعوبةٍ كان يمكن أن يُطلَق على ذلك سياحة. وقد تُتاح الفرصةُ مرةً أُخرى؛ إذ أعلنت «روسكوزموس» أنها ستُخفِّض عددَ أفراد الطاقم الروسي في المحطة إلى اثنَين، وستُرسِل وكالة ناسا قريبًا روَّادها مرةً أخرى على متن المركبة الفضائية الأمريكية.
أما بالنسبة إلى مؤسَّسة «جائزة إكس»، فقد بدا فوز روتان وألين عام ٢٠٠٤ مُبشرًا بالوصول الوشيك إلى السياحة الفضائية تحت المدارية. وقام مؤسِّس إمبراطورية «فيرجن» التجارية، ريتشارد برانسون، بتمويل «سبيسشيب تو» من «سكيلد كومبوزيتس»، التي يمكن أن تحمِل طيارَين وستة رُكَّاب. كما قامت شركته الجديدة، «فيرجن جالاكتيك»، ببناء ميناءٍ فضائي مُتقَن في صحراء نيومكسيكو من أجل «روَّاد الفضاء». على الرغم من سِعر التذكرة الذي يبلُغ حوالي رُبع مليون دولار، فقد وضع المئات ودائع أو دفعوا المبلغ بالكامل من أجل القيام بالرحلة. ومع ذلك، أسفرت سلسلةٌ من التحدِّيات التقنية وحادثان مُميتان عن عدم القيام بأيِّ رحلاتٍ سياحية حتى كتابة هذه السطور. وتحطَّمت أول مركبة «سبيسشيب تو» في رحلة تجريبية في أكتوبر ٢٠١٤، مما أسفر عن مَقتل طيارٍ وإصابة الآخَر بجروحٍ خطيرة. لقد تجاوزت تكاليف التطوير ما توقَّعه برانسون بكثير، وأكدت العملية الدرس المؤلِم الذي تعلمَته برامج الرحلات الفضائية المأهولة التي تُموِّلها الحكومة، ألا وهو أنَّ بناء أنظمةٍ للصعود بالناس إلى ارتفاعاتٍ كبيرة وبسرعة تصِل إلى آلاف الأميال في الساعة عملية باهظة الثمن ومحفوفة بالمخاطر، وأنَّ محاولة ضمان مُستوًى معقول من السلامة على الأقل تكلَّف الكثير من المال. علاوة على ذلك، إذا حدَث أي حادثٍ مُميتٍ للسياح الذين دفعوا ثمن الرحلة، فقد ينهار سُوقُ المقاعد وستُصدِر الحكومة تشريعاتٍ أكثرَ تشدُّدًا بالتأكيد.
تُكلِّف هذه الرحلات السياحية المدارية ما بين ٢٠ و٤٠ مليون دولار، وكانت تقتصِر على حفنة من الأشخاص اللائقين بدنيًّا والأثرياء الذين تلقَّوا تدريبًا لمدة أشهُر في المراكز الروسية.
تسبَّبت تكلفة التطوير وحدَها في وأدِ العديد من شركات السياحة الفضائية بسبب نقص رأس المال الاستثماري. وبخلاف شركة «فيرجن جالاكتيك»، لم يصمِد سوى صاروخ «نيو شيبارد» الخاصِّ بملياردير «أمازون دوت كوم»، جيف بيزوس؛ لأنه لا يحتاج إلى أموال أيِّ شخصٍ آخر. ولدى «نيو شيبارد» مُعزِّز قابل لإعادة الاستخدام وكبسولة مؤتمتة لستَّةِ رُكَّاب تعود بالمظلَّة. وقد تمَّ بناؤه من قِبَل شركته الفضائية، «بلو أوريجين»، وتمَّ اختباره في غرب تكساس منذ عام ٢٠١٥. وبالتالي، إذا وصلت السياحة الفضائية تحت المدارية أخيرًا في حوالي عام ٢٠٢٠، في وقتٍ متأخِّر جدًّا عن المتوقَّع، فستظلُّ ثابتةً في منطقة مغامرات الأثرياء، على الرغم من أنَّ المسافرين لن يُضطَرُّوا إلى أن يكونوا بنفس ثراء أول سيَّاح مداريِّين.
كانت المركبة «فالكون ٩» قَيد التطوير بالفعل لأنَّ وكالة ناسا كانت قد منحت أموال تطويرها لشركة «سبيس إكس» في عام ٢٠٠٤، ممَّا أدى إلى إبرام عقدٍ في عام ٢٠٠٦ لتزويد محطة الفضاء الدولية بالإمدادات اللازمة لها. واستخدم ماسك ذلك العقد كوسيلةٍ لتطوير مركبةٍ فضائية مأهولة خاصَّة به (أسماها «دراجون») مُستوحاة من المركبة «أبولُّو» (كما فعل بيزوس)، نظرًا إلى هوَسِه برحلات الفضاء المأهولة. أما بالنسبة إلى مركبة الشحن، فسوف تحمِل كبسولة العودة المضغوطة رفوفًا بدلًا من المقاعد والمعدَّات. ويمكن وضع الإمدادات غير المضغوطة في «صندوق» على وحدة الوقود المُرفَقة.
ليس من المُستغرَب أنَّ عملية تطوير «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء سرعان ما تخلَّفت عن الجدول الزمني المُعدِّ لها، حيث كان عليها في النهاية أن تتناسَب مع ميزانية وكالة ناسا التي لا تزال تُموِّل رحلات محطة الفضاء الدولية بالإضافة إلى تطوير مركبات الشحن التجارية والمركبات المأهولة، بالإضافة إلى تليسكوب جيمس ويب الفضائي، وهو خليفة هابل الذي تجاوز الميزانية ولكنه أكبر حجمًا ويُركِّز على الأشعة تحت الحمراء. كان الهدَف الجديد الذي أعلنت عنه وكالة ناسا للمركبة «أوريون» هو الالتقاء بكويكب، ولكن تمَّ خفض ذلك الهدف إلى إرسال مركبةٍ فضائية روبوتية لالتقاط صخرةٍ من كويكب وإحضارها إلى مدارٍ قمري بعيد، حيث سيختبرها روَّاد الفضاء. اجتذبت هذه البعثة القليل من الدعم سواءٌ في الكونجرس أو في المجتمع العلمي، وسرعان ما وُئِدَت بالفعل بحلول نهاية ولاية أوباما الثانية. كان من المُقرَّر أن يكون كل هذا النشاط، بالإضافة إلى اكتساب خبرة رحلات الفضاء الطويلة الأمد على متن محطة الفضاء الدولية، جزءًا من تحدي «رحلة إلى كوكب المريخ» الذي تُخطط له وكالة ناسا، الذي سيضمُّ بعثاتٍ استكشافيةً إلى المريخ في الثلاثينيَّات من القرن الحادي والعشرين. ولكن هذا لم يَبدُ مُقنعًا أيضًا.
ومع ذلك، فقد استهلكت «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء عدة مليارات من الدولارات سنويًّا أثناء التحرك بوتيرةٍ تجعل الصينيين يبدون وكأنهم في عجلةٍ من أمرهم. أطلقت الوكالة وحدة قيادة «أوريون» واحدةً في عام ٢٠١٤ في رحلة عودة تجريبية، باستخدام مُعزِّز تجاري، ولكن هذا هو تاريخ الرحلات الكامل للبرنامج حتى الآن. تأجَّلت أول رحلةٍ من نظام إطلاق الفضاء، وهي إرسال مركبة «أوريون» بدون طيَّار إلى مدار القمر، إلى أواخر عام ٢٠١٩، حتى كتابة هذه السطور. ويبدو من غير المُرجَّح أن تنطلِق أول بعثةٍ مأهولة، بهدف قضاء عدة أسابيع في مدار القمر — وهي المرة الأولى التي سيُحلِّق فيها أيُّ شخصٍ على بُعد أكثر من ٤٠٠ ميل من الأرض منذ عام ١٩٧٢ — قبل عام ٢٠٢٣. لقد نجت «أوريون»/نظام إطلاق الفضاء في المقام الأول من خلال الحفاظ على الوظائف في المراكز الميدانية للوكالة وشركات مقاولات الطيران والفضاء القديمة. إنَّ هدَف إدارة ترامب الذي تمَّ الإعلان عنه مؤخرًا بتسريع المشروع واستعادة عمليات الهبوط على سطح القمر هو أمرٌ جديد لا يمكن تقييمه، لكنَّ مصيرَ إعلانَي بوش الأب وبوش الابن يُظهِر بمفرده أن التشكيك له ما يُبرِّره.
الخلاصة
لقد مرَّ أكثر من رُبع قرنٍ منذ نهاية الحرب الباردة، ومع ذلك استمرَّ الطيران الفضائي المأهول مع تزايُد عدد المشاركين. ويتمُّ الآن تطوير خمس مركباتٍ فضائية جديدة في الولايات المتحدة: «سبيسشيب تو» و«نيو شيبارد» و«كرو دراجون» و«سي إس تي-١٠٠» و«أوريون»، وأخرى في روسيا: «فيديراتسيا» (التي تعني بالعربية «الاتحاد») لتحلَّ مَحلَّ المركبة «سويوز». وسوف تستمرُّ «شنتشو» في التحليق، وكذلك ستبقى محطة الفضاء الدولية (على الأقل حتى منتصف عشرينيَّات القرن الحادي والعشرين)، وسوف يكون الأوروبيون واليابانيون والكنديون وغيرهم على متن بعض هذه المَركبات أو كلها. (تُموِّل وكالة الفضاء الأوروبية وحدة الخدمة للمركبة «أوريون» استنادًا إلى سفينة شحن محطة الفضاء الدولية الخاصة بها.) إنَّ عدَم وجود أي غرضٍ مُقنع وغير سياسي لرحلات الفضاء المأهولة، والفشل في تحقيق أيٍّ من توقُّعات دُعاة المستقبلية الفلَكية فيما يتعلق بقواعد القمر، ومستعمرات المريخ، وما شابه، لم يُوقِف النشاط.
وكما رأينا، يرجع ذلك إلى حدٍّ كبير إلى أنَّ رحلات الفضاء ما زالت هي الدليلَ على مكانة القوة العُظمى وعلى القُدرة العلمية التكنولوجية، بالإضافة إلى أنها تحافظ على وظائف في الأماكن والصناعات التي نمَت بشكلٍ متفجِّر خلال سباق الفضاء والصواريخ. علاوة على ذلك، لا تزال الثقافة الفلكية العالمية تُولِّد رُؤًى لاستكشاف الإنسان للفضاء البعيد، واستعماره له، كما أنَّ استجابة الجمهور لتجارب روَّاد الفضاء والسياحة الفضائية تُقدِّم دليلًا دامغًا على أنَّ الكثيرين يريدون الذَّهاب إلى الفضاء، وليس فقط رؤيته من خلال عيون الروبوتات. لكنَّ السنوات التي انقضت منذ نهاية الحرب الباردة — بل منذ نهاية «أبولُّو» — أثبتَتْ مدى صعوبة رحلات الفضاء المأهولة وغلائها، حتى بدون التحدِّيات الصحية الخطيرة التي يطرحها انعدام الجاذبية والإشعاع الكوني أثناء الإقامة الطويلة في الفضاء. وما لم يكن هناك سباقٌ جديد مُستوحًى من الوضع الجغرافي السياسي، أو اكتُشِفت حياة خارج كوكب الأرض، فمن الصعب تخيُّل أن الوضع سيتغيَّر بسرعة، حتى لو عُدنا إلى القمر في عشرينيات القرن الحادي والعشرين.
لا تزال الثقافة الفلكية العالمية تُولِّد رؤًى لاستكشاف الإنسان للفضاء البعيد، واستعماره له، كما أن استجابة الجمهور لتجارب روَّاد الفضاء والسياحة الفضائية تُقدِّم دليلًا وافرًا على أنَّ الكثيرين يريدون الذهاب إلى الفضاء، وليس فقط رؤيته من خلال عيون الروبوتات.