الليلة الثالثة عشرة
شعر الأرواح
كنت أقرأ دواوين لشعراء الشرق والغرب المُتقدِّمين منهم والمتأخرين، وكأنني نصبتُ
في كسر بيتي
سوقًا للأدب يَعرض فيها كل شاعر بضاعته، وينشر كل جيلٍ وجنسٍ في أركانها ثمار أفكاره،
وإنني
لأقول في نفسي إنَّ الشعر ملَكَة في كل إنسان، وإنه من الصفات اللازمة للمخلوقات العاقلة،
وقد
يكون أظهر في بعض الناس بقدر دقة شعورهم، ولكن لا يخلو منه أحد. وإذا بالروح الحائر قد
أقبل
يَشقُّ ظلام الليل بنوره الربَّاني، قال لي: إنني أعرف ما يجول بنفسك؛ فقد لمحتُ في زوايا
الغرفة
نفوسَ نفرٍ من الشعراء جاءت مُتشوِّقة مشتاقة تسمعك تُنشِد أشعارها، ولو كُشِفَ لك بمثل
ما كُشِفَ لي
رأيتَ الليلة حولك عجبًا من أرواح الشعراء التي ترفرف على كتبك وتسبَح في الأثير الذي
يحمل
أنفاسها التي كانت تُردِّدها مذ كانت على الأرض الفانية.
على أنَّني أودُّ أن أذكر لك ما وقع لي منذ عهدٍ قريب: كنتُ أطوف في السماء كعادتي،
فإذا بي
أسمع أنغامًا شتَّى خارجة من مَكمنٍ خلف غيوم كثيفة تخللتها ألوان قوس قزح، فدنوت واستمعتُها
فإذا هي أناشيد تتغنَّى بها بعض الأرواح، فاستبنتُها فإذا أنا
أرى أربعة أرواح شاعرة، وفي يد كل منها قيثارة يوقع عليها ويتغنَّى، فلما قربت سكتتِ
الأصوات
واسترقتِ الأرواح نظراتٍ خفية فيما بينها وأوشكت أن تنصرف، فقلت لها: بحق الوحدة التي
أنا
فيها والودِّ الذي جمعَكُم ووفَّق بينكم، هلًّا أنشدتموني شيئًا من شعركم؟ فابتسمتِ
الأرواح واحدًا
بعد آخر، وتقدم أحدهم ورفع بجناحه الملوَّن ثم أمرَّ يده على جبينه المُكلل بالغار، وقال:
أيها
الروح الحائر، إنك حديث العهد بأهل السماء وقد سمعتَ في الأرض شعرًا كثيرًا مُعظمه عقيم؛
لأن
شعراء الأرض لا يزالون لاتصالهم بالمادة الذميمة مُقيدين بقيودٍ وضعها المحافظون لعجزهم،
وقد
ألفتُم هذا النوع من القول في شئون لا تتعدَّد، فلو أنك سمعتَ ما نتسلَّى به مما يقوم
بنفوسنا دون
قيدٍ لم يرُقْك؛ لحداثة عهده، ولكنك إذا مارسته استوعبته واستعذبته، وإن في أهل الأرض
بعض
المفوقين الذين جرءوا فقالوا الشعر كما أُوحِيَ إليهم، وأعطَوا الناس أفكار الأرباب عذارى
لم
تعبث بها ضرورة الوزن ولا عُذر القافية والبحر.
قلت: أجل، إنني أذكُر شعر فرلين ووتمان.
قال الروح الشاعر: وكيف وجدته؟
قلت: وجدته عذبًا كالشهد وصادقًا كالحقيقة.
قال الروح: إذن لن تنفِر إن أسمعناك شعرنا، وها أنا أبدأ بالنشيد وأنا أصغر إخوتي
وأعجزهم.
ثم ابتعد الروح الشاعر الأول وأخذ قيثارة وشرع يتغنَّى بقولٍ وعيته بلسان الأرواح
ونقلتُهُ
إليك على قدْر استطاعتي، قال:
بسمة الربيع
سمعتُ في الروض تغريد البلابل
ورأيت في طريقي زهرة البنفسج بين الأعشاب
وشعرت بحرارة الشمس القوية
وخرجتْ نفسي من مخبئها تستقبل الفصل الجديد.
•••
الكون كله يتأهَّب للحياة
والطبيعة بُعِثت من مرقدِها الطويل
والموجودات كأنها آلات عازفة
تشترك في إحياء مولد الوجود.
•••
دع الإنسان النهم يجمع المال أو يشيد
ودع دولًا تحيا وأُخرى تموت
ودع الحكماء يقولون ما لا يعلمون
وهلمَّ بنا إلى الأحراش والحقول.
•••
الأيام تجري مُسرعة، بل الزمان يقطعها قبل الأوان
ولكن كل مشرق شمس أدنانا من مولد الربيع
آذار رسول الجمال والنور
آذار ملك على الأيام والشهور.
•••
كالوالد الحنون يُعدُّ لولدِه مالًا
كذلك آذار أعدَّ للعالم جنة الربيع
صبغ أقمام الزهور بالألوان الزاهية
ونقش أكمام الورد في الأوراق الخضراء.
•••
سرْتَ آذارُ في الكروم والرياض
ومنحْتَ الزهور والثمار من قوتك ونفحك
ووهبتَ الأعناب رحيقًا من خمرك
وطوَّقتَ التفاح بنطاقٍ من ذهبك.
•••
آذار أنت طبيب الطبيعة
أنهضتها من فراشها بعد طول الرقاد
وسيَّرتَها في موكبٍ عجيب لفتَ أنظار الآلهة
كل كائنٍ يعزف على آلة مُطربة، وكل زهرةٍ كأنها علم منشور.
•••
إن الخزامى والنرجس والأقحوان والياسمين تتيه بقدِّها ولونها وريحها
والبلبل والقُبَّرة يتفاخران بحُسن الصوت
والأرض فرِحةً بحياة أطفالها
والشمس تضحك مُعجبةً وتجود بحرارتها ونورِها.
•••
يد الله يا آذار باركت في أيامك، أنت نبي بين الأشهر
في كل ليلةٍ من لياليك تلد الطبيعة نباتًا جديدًا
وتُسمِع في الغابات نغمةً عذبة
كلُّ يوم من أيامك يُكمِل زينة الأرض العروس.
•••
لمَّا اخترقتُ اليوم طريق الغابة وسرتُ على الأوراق المنثورة، شممتُ رائحة الربيع في
الأغصان
الفصل الذاهب تحت أقدامي، والفصل الجديد مُحيط بي
أفواه النُّهيرات تتدفَّق وكأنني لمحتُ في الغدير روح الماء.
•••
آذار أعددتَ مجلس الربيع وشفيتَ الكون من علَّة الشتاء
وأحييتَ النبات والحيوان
وأوقدتَ في نفسي شعلة الحياة
وذهبتَ ولم تَرَ جمال الأشياء!
•••
تلاك نيسان فورثَ مجدَك
كذلك لا يحظى بفوائد الأشياء من بذل نفسه في سبيلها
أفضل الناس من كان بينهم كآذار بين الشهور
سعادته في أنه أوجد الربيع وقضى قبل أن يذوق الثمر.
فلمَّا انتهى من إنشاده ابتسم بسمة الملائكة وقال: يقول أهل الأرض: أجمل النساء لا
تهَبُ أكثرَ
مما لدَيها. ولعلك تجد أحسن من قولي لدى الروح الثاني.
فتقدم الروح الثاني وقد لمحتُ في جناحه كثرة السواد، فسألت الروح الأول في شأنه، قال
لي:
هذا الروح الحزين. ثم أخذ الروح الحزين قيثارة وتغنَّى:
يا معبودتي المحبوبة، خذي قيثارك وغنِّي لي أغاني الحرية
وأشعلي نفسي المعذَّبة بنارك المقدسة، وأسكريني بخمرك الأبدية
وخُذي حِكمتي وتجاربي؛ لئلا يعوقني العقل عن نَيل الأماني
العقل جبان يُقيِّد اللسان ويغمد سيف الفتوة.
•••
لا يفوز إلَّا ذوو الإقدام، الأرباب تُلهمهم شجاة أبطال طروادة
والجن تنفخ في أرواحهم وتدفع بهم إلى حومة الميدان
قلبي لا يسع إلا حبيبًا واحدًا هو أشرف محبوب ودوامًا يلهج بذِكره
كنتُ أهاب الموت في سبيل حُبِّه واليوم أودُّ أن أفديه بنفسي.
•••
نفسي تطهَّرت من شدة الآلام، وهمومي جلَتْ صحيفة الجنان
ابيضَّ فؤادي من سواد الليالي، وتبدَّد الظلام عن بصيرتي
لكلِّ كلمةٍ أسمعها وقع جديد، ولكل حركة في الكون معنى يشغلني
معجزة الحياة والموت أعطتني سرَّها، والعقل الأول يفيض عليَّ من نوره الخالد.
•••
الطبيعة إن ماتت بُعِثَت، والنفس إن شابت شَبَّتْ
أيتها النفوس الخالدة، إن لم تفطني إلى سر الوجود هلكتِ
وإن فطنتِ ازداد تعذيبك ومَسَّتكِ نيرانٌ سوف تكون آلامها نعيمًا
لأن عذاب النفس العالمة ألذُّ من نعيم النفوس الجاهلة.
•••
ليالي العلا أم ليالي الغرام؟
غني أيتها الأفاعي المُطيِّبة واكسري كئوس الخمر العسجدية!
وأبعدي عن ملمس كفي جسومك الناعمة، واختفي عن عيني بحُسنك الساحر
وخلي فؤادي خاليًا من الخيالات الأرضية التي تُعمي البصائر.
•••
ذقتُ مرة رحيق العلا! إنه شراب الأرباب والمُطهَّرين
سكرت، فنسيتُ كل الدنايا فكأن الحقيقة أسقتْني رضابها!
لم أودَّ أن أفيق؛ لئلا تقطع عليَّ أحلامي
هل يترك الجنة من ذاق لذَّتها؟ وهل يبتعِد عن الحقيقة من لمسها؟
•••
محبوبي الجميل أسير ومُكبَّل بالقيود ودموعه ملأت نهرًا جاريًا!
كلما أرى محبوبًا سواه حرًّا يزداد بُغضي للعاذل الغادر وأريد سحقَه
كيف يسحَقُ عاشِق عاجز عدوَّه القادر؟
ولكن حُب موسى أهلك فرعون العتيد.
•••
يا رب موسى وداوود!
هبني قوَّتَهما جميعًا، واجعل قوة العاذل أقلَّ من العدَم!
ويا أيتها الأرباب القديمة القاطنة الكهوف والهياكل الخربة، لماذا تركتِ زهرتك
تذبُل وتذوي؟
ويا حارس الأرض المقدَّسة الرابض في القفر، هل آن تبوح بسرك الأعظم؟
•••
أفقر الناس أغناهم، وأكثرهم تواضعًا أرفعهم
وأبعدُهم عن المجد أقربهم إليه، وأسماهم حبًّا أدناهم من الآمال
ليس لي في هذه الأرض قيد أصبعٍ، ولست أملك من مائها قطرة
فَخْر غيري في امتلاك أرض الوطن، وفخري في كوني ملك الوطن.
•••
تمالأ الكلُّ واتَّحدوا على المحبوب، ولكن هل يُعجزون إلا أنفسهم؟
يا طلَّاب الدنيا الزائلة، ويا عشَّاق الذهب الحقير!
ويا منافقون في سبيل أقذر الأشياء، ويا مُفرِّطون في أعظم النعم!
كيف تنامون ونور الحق سيُبدِّد أوهامكم ويهزأ بأمانيكم الفارغة؟!
•••
في كل عامٍ يفيض النهر فتترجرج أمواهه الحمراء بين ضفافه الغنَّاء
حتى إذا أطعم الأرض وسقاها اندفع ليزيد ماء البحر
كأنه نفس تنضمُّ إلى نفوس خالدة لتزداد بها سعادتها
معجزة النهر ترجع إلى طفولة الأرض وتكاد تنتهي الأرقام دون حساب عمره.
•••
ولكن أنت أيها الإنسان الزائل لا تفيض إلا مرة واحدة
ثم تغيض حياتك مرة واحدة
فهلا كنتَ كالنهر ما دام شبابك زاهيًا؟
هلَّا وهبتَ نصيبًا من حياتك للأرض الطاهرة؟
•••
كانت إلهة المجد تفتِنُني فأصبحت أفتنُها؛ لأني زهدتُ فيها
آمالنا تتمُّ إذا اقتنعنا، وما دامت مطامعنا دام عذابنا
يطول عمر من يطلُب الموت ومن يفرُّون منه يلحَقُ بهم
حياتنا لها قيمة في ذاتها فدعْني من قصة الجحيم والجنة.
•••
محبوبتي المسكينة ترتجف في يدي وتبكي، ماذا بك أيَّتُها المحبوبة؟
إن اسمك يُذكِّرني بفتيات المدينة الخالدة
وشَعرك أسود طويل لا ينقصه إلا ضفائر اللؤلؤ
وعيناك أجمل من عيني سافو الشاعرة المجنونة.
•••
أنفك كأنف كلوبطرة، وثغرك حُقٌّ مملوء بالجواهر
وجسمك كأنه صُنع ميلو الذي أودعته الطبيعة قوة الخلق فباراها
ولكنَّ قلبك الصغير قَطاة تفتأ تخفق بجناحيها
هل لديه سِرٌّ يريد إظهاره، أم به شوق للوقوف على لُغز الوجود؟
•••
تبكين لآلامي؟ كفكفي إنك تزيدينها بلا عِلم، وأبقيها؛ لتذرفيها في الأيام
القادمة
إن دموعك لؤلؤ فلا تُسرفي، وأشفقي فإنَّ حرارتها تحرق قلبي
إنني أعرف آلامي وهي تعرفني، ولكن أنت لا تعرفينها فابتسمي
قد يُبدِّد الغيومَ الكثيفة شعاعٌ دقيق، وقد تزيل أحزاني المتراكمة بسمةٌ من فمك.
•••
يا ربَّة العلا، تقبَّلي ما كتبتُ هدية منِّي
صحِبْتِني طول عمري وأسهَرْتِني لياليَ طوالًا
بنيتُ لك في قلبي معبدًا ساميًا، ودوَّنتُ لك صلاة فتحت فيها خزائن نفسي
لا أدعو غيري للدخول في دينك؛ لأنك إلهة قاسية!
•••
باركيني يا إلهة العُلا واغفري ذنبي
إن نلتُ رضاك وأردتُ جزائي فخير جزاء أن تتركيني وشأني
لا تغاري إنْ بُحت لك بسري: إنَّ قلبي تشغله محبوبة جديدة
هي أسمى وأجلُّ منك واسمها الحقيقة!
قال الروح الحائر: ثم تقدَّم الروح الثالث بخفَّةٍ كأنه يسارع إلى حرب، ونظر إلينا
نظرةً مُريعة،
فقال لي الروح الأول: هذا هو الروح المعذَّب، وسيُنشِدنا أغنية النار. فأنشد الروح
المعذَّب:
أغنية النار
نأى العهد القديم وا حسرتي!
وصرتُ وحيدًا إلا في صروف الزمن
فيومًا بشرقٍ ويومًا بغرب
وكِلا اليومين طويل بالإحن.
•••
فلا الشرق يحلو لي جماله
ولا الغرب يطيب لي مُقامه
ولا الدهر يَحبوني يومًا بلذَّة
ولا العيش يصفو لي لدى العود إلى الوطن.
•••
لي نفس تُعذِّبني مُذ عرفتها
هي نفس حائرة لا مُستقرَّ لها
هي طائر غريب حزين سجين
وسجنه ذاك البدَن.
•••
لا ألومُك يا نفسي؛ فأنت مثلي فريسة
وهل يلوم رفيق رفيقه؟
إذا تلاقيا في سجنٍ دنيء كأرضنا
نفسٌ لا يقرُّ لها قرار، وجسم نحيل براه الشجن.
•••
كِلانا يا نفس رهين حبسِه
ما جَنَيْتُ يا نفس ذنبًا، وما جنيتِ، ولكن حِكمة في العلا أرادت تَعذيبنا
فصبرًا يا نفسي ولا تجزعي، فكلُّ عذابٍ له مدى.
•••
يُحزنني أننا إن خرجنا من سجننا افترقنا
فأنت أين تذهبين؟ هل لديك عن مصيرك من خبر؟
أما أنا فمصيري مصير سواي من هؤلاء البشر
تراب ودود ثُم هيكل لا يروق النظرَ.
•••
يا حبذا لو أحرقوا أبداننا وصانوا رُفاتها
تكون رفاتنا لأبنائنا كبعض العبر
أما تلك العظام فإنها تُهان
وإن لم تُهَنْ تصير غذاء للشجر.
•••
يا يديَّ، كم من حكمةٍ دوَّنتما!
ويا عينيَّ، قد رأيتما العجائب
ويا قلبي، كم أمر جليل وحبٌّ كريم وحزن عميق في ثناياك دفينة!
ويا قدميَّ، طويتما الأرض بأسرِها وما طواكما يومًا شديد الخطر.
•••
كم يدٍ بيضاء ناعمة لمستُها!
وكم وجهٍ نضرٍ جميل رأيته!
وكم صوتٍ عذب استوعبته!
وكم أملٍ حلو تمنَّيته!
•••
وكم ذكرى تملأ النفس حُسنًا ذكرتها!
وكم ليلةٍ كالدهر طولًا قضيتها!
وكم من صحفٍ سوَّدتُها وبيضتُها!
وكم يا نفسي، وكم هل عددتِها كلها؟!
•••
في طرفة عين تصير جميعًا حديثًا مضى
وأنا سِيرة مُختلط بسوئها حُسنها
هذا ولا الأجرام يعتلُّ سيرها
ولا تقف حركة الأرض لحظة، إنما يُرَد إلى الأرض طينُها.
•••
رُدُّوني يا قوم دخانًا يطير إلى العلا!
فقد أحببتُها!
وهي التي أشقتني سنين وأسعدتْني دقائق
وهي التي حدَّثتْني وحدثتُها.
•••
النار عنصر لا يُماثله غيره
هي روح دقيق نراه ويغيب عنَّا فهمه
هي رمز لربِّ موسى الكليم
قال لي عابد: لو فقهتَ معنى النار عبدتها.
•••
قلت له: وماذا يُجديك حبُّها؟
قال: هي مصدر الحياة؛ لذا أريد تقديسها
هي خلاصة الشمس، هي روح الورى
يا حبذا يوم يضمُّني لهيبها.
•••
قلت: هلا طلبتَ النار حيًّا فذُقتها؟
قال: أنا نار، ونفسي نار! وقلبي نار، وكل ما تراه إنما هو شعلة!
فقلت: وما قولك في جحيم جاءت بذكرها أديانُنا؟
قال: أذكاكم أكثركم ذنوبًا حبًّا في نارنا.
•••
رأيتها يومًا في حجرة فراشها أحمر كالنار
وخدَّاها لهما لونٌ كلون اللهب
وعيناها ترميان بأسْهُمٍ من نار
فدنَوت منها ولمستُها فشعرتُ في قلبي بالنار.
•••
وحادثتها، فقالت كلامًا أشعل نفسي كما تُشعِل الحطبَ النار
ثم رأيت شفقًا في الغرب كنقطةٍ من نار
فقبَّلتها فأحرقتْ قُبلتها فمي فصرختُ من شدَّة الألم!
قالت لي: أنا النار بيدي الإيجاد والعدم!
ثم تقدم الروح الرابع وهو شيخ بين الأرواح له لحية وشعْر مُنسدل وكأن شَعر لحيته،
ورأسه
لبياضِهِ كالجليد، وبيده قيثارة وعكاز على شكل القلَم، فقال لي الروح الأول: هذا هو الروح
المؤرِّخ، سيُنشِد لنا أغنية يصف فيها صروف الدهر وحوادث الأيام. فهَمْهَم الروح المؤرِّخ،
ثم انطلق
بصوتٍ كالرعد يتغنَّى:
عروش الجبابرة
فرَّ تيبير إذ هاج سخط الورى
وولى من رومة هائمًا مُدبرا
كذا سخط الشعوب مُشتِّت شمْل الظالمين
ومُبدِّل سُكنى القصور بأدنى القرى.
•••
خافَ جبار أن يحيق بعزِّه ما حاق
بعزِّ أسلاف له أذاقوا رومة علقمًا
فخلَّى قصورًا باذخات وراءه
وعزًّا مقيمًا وعيشًا رخيمًا ومجدًا طائلًا.
•••
وخلَّف عرش أوجست العظيم وهو باكٍ فراقه
والكابيتول والفورو ونهيرًا ساد الأبحرا
ولكنه فرَّ من شعب غضوب وجيش ناقم
وسَخَطُ الشعب كسَخَطِ الرب لا يُتَّقَى.
•••
إلى أين يا من سُدْتَ الرومان جميعهم؟
وكنتَ بالأمس ملكًا مطاعًا بل إلهًا أكبرا؟
ويا من قُدْتَ الجيوش وسيَّرتها
ويا من فرَّت لذكرك أُسد الشرى.
•••
ويا من هلعت قلوب القوم إن تُكدِّر صفوه
ويا من أجاب نداءه الشرق والغرب معًا
ويا من ملكتَ الأرض بأسرِها
ويا من إذا خطرتَ ببقعةٍ تنحَّوا وقالوا: قيصرا!
•••
لي صخرة بالبحر بقِيَت من قارة الجن أثرَا
جزيرة ذات حُسن فاقت به الجُزُرَا
«كابري» عروس الماء كعنقود الثُّريَّا في الدُّجى
جزيرة أورثتَ سبيلَها مُذ سكنتَها خطرَا.
•••
شاد تيبيرُ حصونًا في جوانبها
وأودع كلَّ حصنٍ من جُنده نفرَا
وقال: الويل لكم إنْ مرَّت بالحصن سابحة
ولم تُحيطوني بأمرها خبرَا.
•••
واعتلى كاهل الصخرة وشاد له قصرَا
آية في الإحكام بناه إنسان يحارب القدَرَا
صخور عاليات كأنها رماح صُوِّبَتْ نحو النجوم
ودعائم تكاد علوًّا تلمس القمرَا.
•••
وقال: هيهات أن يدنو من قصري ابن أُنثى
أنا إمبراطور رومة! أنا سيد الأرض أملك البحر والبرَّا
أُقارب المَوج والريح والسما
أنا إله الخلق من أرى منهم ومَن لا أرى.
•••
حملتَ خير رومة يا تيبيرُ ولم تُبْقِ في بستانها ثمرَا
حملتَ المال وما فتئ المال يقضي به أمثالك الوطرَا
وحملتَ أبكارًا وغلمانًا لم يعرفوا دنسًا وحمَّلتهم ذنوبًا
وصيَّرتَ كابري جحيمًا أذاعت ناره شررَا.
•••
دعوتَ الجزيرة جنة الفردوس؛ لأنها حوت ما اشتهيتَ
لقد لوَّثتَ الاسم وخدعتَ نفسك!
وأمِنتَ إذ جعلتَ في كل رُكن عينًا ترى
ولكن القضاء إن حلَّ أفقد البصرَا.
•••
في كلِّ يومٍ أحدثت مذبحةً
وفي كل ليلةٍ قتلت عفافًا وطُهرًا
ولشدَّ ما أبكيتَ وسالت عيون الحِسان دُررَا
وهل يرقُّ جلمود، وهل يحنُّ صخر، وهل يلين مخلوق لم يألَفِ البشرَا؟!
•••
مغاور الجزيرة الزرقا جرت دماءً مدنَّسة
وأرضها صارت لكثرة ما استقبلت حُفرَا
والبحر استغاث كلما هوت من صخرك العالي فريسته
وجاشت نفس نبتون فأغرى أربابًا سواه فأضمرت لك الغدْرَا.
•••
أتذكُر إذ قُدتَ العذارى وهي عارية
وأمرتها أن تسبَح بماءٍ كأنه فيروز جرى
ومتَّعتَ عينًا غير قانعةٍ
ثُم اكتفيتَ فأمرتَ ببطونهنَّ أن تُبقرَا.
•••
فجرتْ دماء الغيد كالياقوت حُمرا
فكأنَّ لونها القاني ولون مغارة كابري من أبدع ما يُرى
وراقَكَ اللونان فقصدت الحِسان مرةً بعد أخرى
وسعِدتَ بأبشع الآلام يا أقسى الورى.
•••
أتذكُر إذ عبثتَ بالأطفال اليافعة
وأطلقتَ عليها الثعبان ينهشها
فسرَتْ سمومُهُ في مجاري الحياة اليانعة
فاستغاثت منك شياطين سقر.
•••
حصنك العالي يا تيبيرُ يقيك كلَّ عدوٍّ مُداهم
وصخرُك الأشمُّ يحميك إذا حاق الخطر
وجندك لا تغمض عيونهم
حظك لذيذ الرقاد، وحظ حراسك طويل السهر.
•••
كم عدوٍّ ألقيتَ من أعلى صخرة
كما يُلقى الفتى عن مِقلاعه بالحجر
فهوى إلى قاع اليمِّ مُهشَّمًا
واغتاله البحر اغتيال الرمل رذاذ المطر.
•••
كم سِرٍّ عميق في جوف البحر العميق دفنتُه!
وكم جُرمٍ خفيٍّ كتمتُه قبيل السحر!
وكم حسناء أسلْتَ دماءها!
لترى رائع الموت في ضوء القمر.
•••
أمنت الدهر يا تيبير واحتقرت عقابه
وحسبت كلَّ شيءٍ مُسَيَّرًا في ركابك حتى القدر
إذا هاج الشعب قتلت شيوخه
فهابك الصغار والخوف داءُ الصغر.
•••
غضِب الإله الحق يا من سلبتَ نفوذه
وأراد بك شرًّا استحققتَهُ
وإرادة الرب ليس منها مَفر
سوف يروي التاريخ ذكرك قصة، وفي كل قصة لنا عِبر.
•••
أوحى الإله للخلق أن يغضبوا
غضب الشعب وكفى
غضب الشعب من غضب الإله
غضب الشعب بداية سَخَطِهِ، فانتظر!
•••
أنجلو فتى صغير السنِّ كبير الأمل
نفخ الله فيه من روحه
كان يصيد الأسماك يعول منها أسرة
وشاءت الأقدار أن يكون مثالًا للبشر.
•••
رأى أنجلو قصرًا شامخًا أبصار الورى حولَه خاشعة
دعائمه ناطحت السماء تعاليًا
ورماح حراسه تُذيب الغيوم السابحة
وتماثيل تيبير بأركانه، ربٌّ يُخاف ويُتَّقى.
•••
رأى أنجلو شعبًا مُعذبًا
يُسام الخسْف ويُسقى الألم
ذُلَّ قومٌ ليمرَح واحد
والظلم لا ترضاه أقلُّ الأمم.
•••
كان أنجلو شجاعًا لا يخشى الرَّدى
واثقًا بذاته ما دام في فعله مُخلصا
يحبُّ الناس أكثر من نفسه
يودُّ لو يشقى ليسعد غيرُه.
•••
ترك الصياد الشِّباك وخلَّى السَّمَك
وقام ينادي: «أفيقوا من سُباتكم.»
فقالوا: جُنِنتَ يا صبي، إنك جاهل
وهل فاز مُعاند من إذا قال فعل؟!
•••
أيقوى الثرى أنْ يُسامي الثُّريَّا في السما؟
أو يريد الدود أن يطارد الأسد؟!
أو تريد — يا قليل الحول — أن تقاوم مالكًا
تخرُّ له الأفلاك إذا مشى؟
•••
قال أنجلو: إنَّ المُحال حجَّةُ من عجز
وليس عرش ظالم بباقٍ حتى الأبد
اعزموا تتهدَّم دعائم من ظلَم
ويهوي عُلاه كما تهوي أوراق الشجر.
•••
عبس الجمع وتولَّى ساخرًا مِن حقيرٍ يُسامي الملِك
وقالت أمُّه: أنجلو، لا تقُل يا ولدي ما تعتقِد
لئلا تصير طعامًا للسَّمك وتتركنا عيلةً بلا رجُل
وبكت واستبكَتْهُ، ولكنه لم يحل.
•••
خلا أنجلو بذاته، فحار في أمره
وصار يُسائل الأرض والبحر والسما
صخور كابري لا تُجيب نداءه، ولا البحر الصامت الخالد
ولا كواكب الليل؛ لأنها أَعينٌ ترى ولا تنطق.
•••
ساد السكون وتجلَّى جمال الدهر
وجاء الوحي مُخترقًا حجاب الدُّجى
سمِع أنجلو في وحدة الليل الرهيب نداءه
«اصعَدْ إلى القصر واهزُزْ عرشه!»
•••
صاد أنجلو سمكًا نادرًا بهيَّ اللون كأنامل النسا
وولَّى يحمله لربِّ العرش هدية
فلمَّا بلغ سفح الجبل رأى حارسًا
ولكن حباه سواد الليل ثوبًا قاتمًا.
•••
قضى ليلَهُ صاعدًا صخرةٌ تُعليه وأُخرى تخفضه
في كل خطوةٍ يرنو مُتلفِّتًا
وصوت السكون نذير الوجل
ولكنَّ في قلبه صوتًا هامسًا كأنه صدى صوت الأمل.
•••
قال والقوم حوله: «المُحال حجَّة من عجز.»
كأنَّ كُلَيمته نبراس يضيء سبيله
وكأنَّ صخور البحر حبَتْ بالثبات فؤاده
وتَلاطُم الأمواج أنغام تُشجع قلبه.
•••
تسلَّق أنجلو جدار القصر قُبيل الشروق ببرهة
ثم بدَتِ الشمس من خلف الجبال العالية
عين الإله أطلَّت على الورى لتكسو الأرض نورًا باهرَا
فاستوقف ذاك الجمال جنان الفتى.
•••
طلعت الشمس كقُرصٍ من ذهب
وألقت على الماء شِباكها وصبغت عسجدًا غصون الشجر
الماء عن بُعدٍ زبرجد سائل
وفيزوف يتنفَّس دُخانًا ترحيبًا بالضحى.
•••
رأى الحرَّاس شخصًا قادمًا فهالَهم؛ لأنهم لم يظنُّوه من البشر
حصن تيبير مُقدَّس لم تطأه بغير عِلمِ ربِّهِ قدَم
من ذا الذي لم يرُعْهُ الخطر؟ بُهتوا ولم يجسروا أن يدنوا …
ما هذا الحقير؟ أشبح زائل؟ أم رسول من العُلى؟!
•••
قيصر لا يزال في فراشه، ما عرفتْ عيناه سوى نور الشفَق
قضى الليل في جحيم مذهب
كذا اليوم يقضي في رقاد مُزعج
ومن يحظَ بصفوِ الليل يلقَ في النهار الكدَر.
•••
استأذن الحُرَّاس على قيصر ودنا رئيسهم على حذَر
وقال: إنسان تسلَّق صاعدًا
قال تيبير: تسلَّق ماذا؟ أجِب!
قال الرئيس: تسلَّق يا مولاي سياج القصر.
•••
قال تيبير: قُل رامَ أسباب السماء بسُلَّم
ولا تقُل تسلَّق قصرَ ربِّ هذا العلا
قل: شاء إنزال كواكب الفلك
ولا تقُل: استهان إنسيٌّ بعرشِنا.
•••
تمنطق تيبير وسار إلى ساحة القصر مُسرعًا
كمن يريد خرْق الأرض أو بلوغ السُّحب
غضوبًا حانقًا، ولكن في فؤاده دبيب الذُّعر
فلمَّا دنا رأى فتًى صغيرًا عاليَ الجبين بهيَّ النظر.
•••
تقهقر الحرَّاس إذ بَصُروا بربِّ البُرج قادمًا
وابيضَّت وجوههم لما رأوا في عينه نار الغضب
وقال الكل: اليوم غاية عمرنا، اليوم حلَّ بنا قضاء القدر
إلَّا الفتى الصياد تقدَّم باسمًا وألقى بأسماكه تحت أقدامه.
•••
«هذي يا مولاي أسماك حملتُها إليك هدية
أحسن ما صِدتُ وصاد آبائي منذ القِدم
انظُر إليها حمراء دقيقة
كأنها أنامل حسناء تلمس نحرَها وقت السَّحر.»
•••
«أنت من؟ وكيف بلغتَ رحابنا؟
وكيف جُزتَ الصعاب ولم يُدركك الحرس؟»
«أنا فتى حُرٌّ أريد أن أُبدي لأمثالي المَثل
فقد نزَّهوا عرشك عن أن يُنال.
•••
تسلَّقتُ القصر وجُزت الصعاب إليك
ليَعلَم القوم أنَّ أعلى الحصون تمنُّعًا قد ناله أدنى البشر
وأن صيادًا حقيرًا أراد فلم يعجز عمَّا طلَب
وها أنا يا ظالِم أهزُّ أرفع عرشٍ في الدُّنا.»
•••
بدا الغيظ الشديد في سحنة الضبع النَّهِم
ورأى الحرَّاس طيفَ الفناء حول الفتى حائمًا
وحاول علج بينهم أن يَسلَّ حُسامه
فقال تيبير: مكانك، هذا فريستي!
•••
ومدَّ معصمًا لم يعرِف لذَّة العمل
خلَّفه صراع الوحوش ملفوف العضل
ونال أنجلو من منطقة حول خصرِه
فكأنهما ذئب وحمل.
•••
وراح الغشوم ثابتَ الجأش مبطئًا
حتى دنا من صخرةٍ أطلقوا عليها اسمه
استغاثت ممَّا سقاها من دماء البشر
وطوَّح بالفتى ثم ألقى به فهوى.
•••
هوى أنجلو إلى البحر مُهشَّمًا كما هوت ألوفٌ قبلَه
ولكن الهواء والجدران والصخور ردَّدتْ قوله:
«أعلى الحصون تمنُّعًا قد ناله أدنى البشر
ليس عرش ظالمٍ بباقٍ حتى الأبد.»
•••
تولَّى الرعب فؤاد تيبير فلم يَنَمْ
أينما حلَّ رأى شبح الفتى وأقلقه صوتُه
«أعلى الحصون تمنُّعًا قد ناله أدنى البشر
ليس عرش ظالم بباقٍ حتى الأبد.»
•••
سقتْ نفس أنجلو في كلِّ حيٍّ بذور الأمل
وعلِم الشعب مقدار بطشِهِ
ولم يَطُلْ عهد تيبير بعد ذلك أشهرًا
وسار ذكر أنجلو في الأرض مَسير المثل.
قال الروح الحائر: فلمَّا سمعتُ هذا واستوعبته نظرتُ حولي فإذا الأرواح الشاعرة قد
انصرفت،
فحملتُ إليك كلامها.»