الليلة الرابعة عشرة١
كنت أدوِّن أسطرًا في صحيفة، فدخل الروح الحائر وبيده المصباح، قال: «ماذا تكتب؟» قلت: «أُعبِّر عن عواطفي بألفاظ البشر الموضوعة لغير ما نُريد بيانه.» قال: «طالما دوَّنتُ مِثلك، وكل ما دوَّنتُ مدفون.»
قلت: «وأين تلك المدوَّنات؟» قال: «وما حاجتك إليها؟» قلت: «إنني لم أقرأها في حياتك الأرضية، فلعلَّ فيها ما ينفعني فأتلوه أو ينفع الناس فأنشره.» قال: «إنها في المنزل الذي خلُصت فيه من الثوب المادي في صندوقٍ خشبي عتيق في حراسة صاحب الدار، وهي كل ما تركتُه من متاع الدنيا.»
قلت: «إني ذاهب إليه؛ لأحصل عليها.» قال: «لك ما تريد.» ولمَّا كان الصباح قصدت المنزل القديم وحصلتُ من صاحبه على لفائف من الورق المكتوب، فقرأتُ ما فيها، فإذا بها فصول شتَّى كُتِبَتْ في أحوالٍ مُتباينة، أُذيع بعضها وأحتفظ بالبعض، والذي أُذيعه «حديث العُلا» وهو مجموعة أناشيد شتَّى.
(١) حديث العلا
النشيد الأول
يا إلهة الشعر! يا أشرف الملكات، يا صوت النفس والوجدان!
يا ملجأ الحزين، وموئل الشاكي من بني الإنسان!
يا أيتها النفس القوية الجميلة المجهولة، يا ذات العطر الضائع في كل زمان ومكان!
يا ترجمان الفؤاد، ولسان القلب، ومنطق الطبيعة!
أنت المعبودة التي لا ينأى عن تمجيدك إلا ذوو النفوس الضعيفة الجامدة، أنت سيدة الآلهة في هذه الأرض وأشدهم قوةً وأنضرهم شبابًا وأفصحهم بيانًا.
عبادتك ترجع إلى القرون الأولى قبل أن يُعبَد باكوس وقبل أن يُسجَد للزهرة.
لقد أنطقت لسان آدم الأول مُذ التفتَ فبَصُر بمخلوقٍ جميل أسماه حواء.
أنت أنطقتَ لسانه مُذ نظر إلى ما حوله من جمال الطبيعة وحسنها فخرَّ ساجدًا.
لقد ضقتُ بك — أيتها المعبودة — ذرعًا، وأنا اليوم لا أستطيع صبرًا.
لا أقدِر على السكوت يا ربة الشعر، فلا سبيل إلى الكتمان.
لم تضعي في نفسي ميزانًا يزِن الألفاظ، ولم تمنحيني مِصقلًا أصقل به الكلام، ولم تَهبيني زورقًا ذهبيًّا أخوض به عباب أبحر الشعر.
لم تَهبيني نفوذًا شاملًا على المعاني الجليلة لتجيبني إذا دعوتها، لم تعطِني موهبةً من مواهب الشعراء السعداء الذين يعبدونك.
فاعذُريني إذا لم أُفاخرهم بألفاظٍ كألفاظهم لها رنين في الأذن وطعم حلو في الفم.
اعذُريني يا ربَّةَ الشعر إذا كانت المعاني السهلة المنال التي أظفر بها لا تُبهر من يقرؤها.
اعذُريني إذا خلا تسبيحي إيَّاك من الجلال والجمال اللذَين لا يليق في حقك تسبيحٌ بدونهما.
واعتقدي يا ربة الشعر أني أعشقُك وأعبدك ولا أنساك في صحوي ورقادي!
قد يكون أقلُّ العاشقين بلاغةً أشدَّهم غرامًا.
أنت — أيتها الإلهة الجليلة — التي تظهرين لي ساعةً فتحلِّين عقدةً من لساني، وترفعين غطاءً من الأغطية الكثيفة التي تحجب الحقيقة عن جناني!
إني أبهج بذِكرِك!
أنت — أيتها الإلهة — تَقرُبين منِّي حتى إذا حاولتُ أن ألمسك غِبتِ وذُبت أمامي كما يذوب الحُلم الجميل قُبيل اليقظة.
أنت التي أمليتِ عليَّ إذ كنتُ بأعلى الجبل قولًا بديعًا، وأريتني أعظم ما يُرَى، واستنزلتِ على نفسي أسمى ما ينزِل به الإلهام، فلمحتُ بين النخيل عند غروب الشمس وجهًا دام برهةً ثم اختفى.
فخررتُ صعِقًا، ولمَّا تنبهتُ لنفسي رأيتُ رأسي على حجرٍ ووجهي سابحًا في بحر من دموع الخشوع والفرَح.
أنت — أيتها الإلهة — أدركتِني على شاطئ البحر، وأوصيت الحياة، فأخذتُ أصرخ من أعماق قلبي حتى كاد صوت الأمواج المُتلاطمة يخفُت بجانب صوتي.
كنت — أيتها الإلهة — أعبدك سرًّا وأُخفي أمرك عن غيري، واليوم عجزتُ عن الكتمان، فها أنا أعبدك على رءوس الأشهاد، إن العاشق يبقى زمنًا ما كاتمًا حُبَّه ووجدَه حتى إذا يئس باح؛ لعلَّ المحبوب يُشفق، أو لعلَّ العاذل يرحم، إنني اليوم كذلك، وإن لم أكن يئستُ منك ولن أيأس أبدًا، جئت أبوح بهواي؛ لعلك ترحمين أو تُشفقين!
•••
جئت — يا إلهة الشعر — أستعين بك على إلهة قاسية جميلة مثلك، أعطيني قيثارتك وصوتك! أعطيني وترًا من أوتارك؛ لأوقع عليه أنغام النفس المعذبة!
إن الإلهة التي أشكو منها وإليها لا تزال في عنفوانها وقد هرم الدهر، إنها أهلكت الأمم والأجيال وأفنت الشجعان والأبطال، ولا تزال تتطلَّب المزيد!
إنَّ لها في كل يومٍ ألف فريسة، وتلك الفرائس كلها غالية عزيزة، ولكن الإلهة القاسية لا تعفو ولا تصفح، إنها تبذلهنَّ جميعًا وتُهرق دماءهن وهي باسمة مسرورة؛ لأنهن يذهبنَ سعيدات.
إن تلك الإلهة هي التي عبثت بسقراط وهنيبال وقيصر وأتيلا وبونابرت وهوش.
وعبثت بآلافٍ مثلهم من قبلهم وستعبَثُ بآلاف بعدَهم، ولكن يظهر لي أن الفرائس الكبرى هي التي لا تُعرف أسماؤها، أما التي نعرفها فهي أصغر بكثيرٍ ممَّن لم تُذكَر.
إن هذه الإلهة القاسية تُسمَّى «العلا».
•••
لو سألوني عنك أيتها الإلهة، وطلبوا منِّي وصفك عجزت، ولكنني لا أنكر وجودك الذي أشعر به كوجودي، حبك يملأ نفسي ويُفعمها، إنك مُمتزجة بعواطفي ودمي، إنك — أيتها الإلهة القاسية — تَجرين في عروقي، أنت واضحة مُبهمة، ظاهرة غامضة.
إذا شئتُ أن أنحت لك تمثالًا أو أنقُش صورتك على لوحةٍ ترتجف يدي وتعجز عن إتقان شكلك، وسرعان ما تفرِّين من أمامي كأنك بنت الغابة في الطراد.
ولكن قد لمحتك مرة رغم إرادتك! رأيتك إذ كنت يومًا في أشد حالات الضيق والأسى، وقد اسودَّ بياض الدنيا في عيني، يوم كنتُ أرى نفسي مُحقًّا مهضومًا وغيري ظالمًا ظافرًا، يوم رأيت الحياة عبثًا والجهاد عبثًا والثبات جُبنًا والصبر نوعًا من الجنون، يوم تملَّكني اليأس وأحاط بي، يوم حاولت أن أشرَبَ الكأس التي شربها سقراط؛ لأخرج من المعركة الدنيئة التي طوَّحَت بي فيها يدُ القضاء الظالمة فظهرتِ لي!
نعم، رأيتُك بوجهٍ لا أنسى جماله وقوَّتَه، ورأيت جبينك الوضَّاء مُشرقًا كأنه مهبط وحيٍ جليل، ورأيتُ في يدك اليُمنى مصباحًا من نورٍ وأنت تُشيرين به كأنك ترشدينني إلى السير إلى الأمام وفي اليد الأخرى إكليل من الغار تُومئين به نحو رأسي!
فتنبَّهتُ من سكرة اليأس ونظرتُ إليك طويلًا، ولم أخجل من جمالك وقوتك، ولكنَّني قلتُ لك بصوتٍ أجش لم تسمعه أذناي: «من أنت؟ تكلمي!» فدنوتِ منِّي، ووضعت قُبلة على جبيني ثم قلتِ بصوتٍ لا يزال دوِيُّه في نفسي: «أنا العُلا.»
فنهضتُ وحاولت أن أُمسك بذيلك، فطرتِ عني بأجنحة لم أرها، وطارت نفسي وراءك شَعاعًا، ثم صحوتُ الصحوة الكبرى، ولمستُ جبيني فإذا عليه لؤلؤ العرَق الرَّطب، ولمستُ بدني فإذا أنا لا أزال أرتجف من أثر قُبلتك كأنني معشوقة ضعيفة بين يدي عاشقٍ جميل قوي! هذه حُمَّى العلا!
من تلك الساعة بعثت في هذه الحياة بعثًا جديدًا، ولبستُ للعيش ثوبًا قشيبًا، وقابلتُ الدهر والقضاء والفقر والحزن والألم بقلبٍ قوي وثغر باسم.
منذ تلك الساعة هزأتُ بصحَّتي وراحتي، وبذلتُ لأجلك السعادة والهناء، منذ تلك الساعة شعرتُ بقوَّتي وشبابي!
منذ تلك الساعة طلَّقتُ الحياة «الدنيا» طلقةً بائنة، ورأيتُ كلَّ شيءٍ دون الحظوة بقربك دونًا.
منذ تلك الساعة رأيتُ الدنيا بأسرها هينةً في جنب رضاك
منذ تلك الساعة شِدتُ لك في قلبي معبدًا أمجدك فيه كلما خلوتُ بنفسي. مصائب الدهر كلها تزول عني إذا عزمتُ على الصلاة لك، والوحوش الضارية التي تُسمِّي ذاتها «إنسانية» تخضع لي إذا ذكرتُ اسمك، إن ألدَّ أعدائي يُحبونني لأجلك، وأقربُ أصدقائي يَبغضونني لأجلك!
إنني أعيش بك ولك! وبك ولك سوف أموت!
النشيد الثاني: حذارِ! لئلا لا تنال الجائزة!
أيتها الإلهة القاسية، إنني منذ عبدتُك نسيت كلَّ شيءٍ دونك ووهبتُك كل شيء، وهبتُك حياتي وسعادتي، فماذا وهبتِني؟ إنك وهبتِني خيالًا عذبًا وفكرة جميلة تُسليني، ولكن هيهات أن تتحقق!
اسمعي يا ربة المجد!
ألا تذكرين يوم كنتُ في قرية جميلة بجانب منبع ماء عذب وحولي غابة كثيفة أشجارها الباسقة ذات السُّمُوق تُناطح السماء، والسكون حولي هادئ شامل، وبين يدي فتاة حسناء تعارفَتْ نفسانا لأول وهلة، فدنَوتُ منها وجلستُ بجانبها وأصغيتُ إلى خرير الماء، ووضعت يدي في يدِها، وأخذت أُقلِّب أجفاني في صحيفة جبينها تارةً وأُخرى في صحيفة السماء، ثم وضعت يدي على جبينها فاضطربتُ وارتجفتُ ودنَتْ مني رغم إرادتها، ولم يكن بين ثغري المُلتهِب وجبينها إلا قيد شعرة، فتجلَّيتِ أنت أمامي بجمالك الباهر وقوتكِ القاهرة وصرخت في أُذن نفسي بصوتٍ لم يَسمعه سواها مُشيرة إلى إكليل الغار: «حذارِ! حذار! لئلَّا لا تنال الجائزة!»
فانتفضتُ ونهضتُ ذعرًا كمن رأى ما يهُوله في حلمٍ عميق، وابتعدتُ لساعتي عن المرأة، بل أبعدتها بيدي كأنني يوحنا يُبعد سالوميه.
إنني — أيتها الإلهة القاسية — أخرجتُ قلبي من صدري بيدي وألقيتُ به تحت قدمي وسحقتُهُ سَحقًا، وحبستُ عواطفي في سجنٍ من الجفاء والغلظة كما يحبس الساحر نفرًا من الجنِّ في إبريق سليمان، وإذا عبث عابث بذلك الإبريق وأطلق سراح عواطفي فإنني منها براء؛ لأنني إذا تركتُها في سبيلها حُرمتُ الجائزة!
لقد جعلت نفسي — أيتها الإلهة الغيور — بلا قلبٍ ولا عواطف؛ لأنك لا تُحلِّين الجمع بينك وبين معبود سواك.
أتذكُرين — أيتها الإلهة القاسية — إذ عثرتُ ببيتٍ جميل فيه فرش وثير ورزق كثير وقلوب تُحبني ونفوس ترجو رضاي، فلمَّا أن أويتُ إليه واطمأننتُ إلى العيش فيه تجليتِ عليَّ في أسعد أُويقاتي وهتفتِ في أذني: «أراك استوعبتَ النعيم، واستعذبتَ العيش الرخيم، فانهض وإلا لا تنال «الجائزة»!»
فقُمتُ من مكاني ورأيتُ أن الحلم اللذيذ لا يطول، فتعلق الناس بي وقالوا: إلى أين أيها المسافر الذي لا يُلْقَى له رحل، والطالب الذي لا يُشبعه عِلم، والطامح الذي لا يُرضيه مجد، فقلت: لقد كُتِبَ عليَّ أن أطوف الأرض وأن أُطفئ ظمئي بالحكمة، وهيهات أن يقرَّ لي قرار أو يُعْرَف ليلي من صُبحي!
أيتها الإلهة القاسية، لو أن الطبيعة الظالمة مدَّت في أجلي، وذرعتُ فضاء المعمور والمهجور، وطفتُ الصحاري، وخضتُ غمار البحور، واستوعبتُ حكمة البشر، وعركتُ الدهر حتى غالبتُ القدَر؛ فهل أنت قانعة بذلك منِّي؟ وهل أنت قائلة: لقد نلتَ — أيها الشقي — بِحُبي تلك الجائزة؟
لقد أعطيتُكِ حياتي وعقلي وراحتي، فماذا أعطيتِني أيتها الإلهة القاسية؟
أعطيتِني آلامًا لا أُطيقها، وحيرةً لا أخرُج من حبالتها، وشكوكًا لا يقينَ وراءها، وليلًا مُظلمًا لا فجر بعدَه!
إنك تُمنِّينني بالخلود! وما هو الخلود أيتها الربَّة الخادعة؟
أليس هو بقاء ذكر فانٍ في أرضٍ فانية؟! أليس هو سطر يُكْتَبُ في الهواء لتذرُوه الرياح؟! أليس هو خيال كلَّما تبعتُه تركني، وكلَّما اقتربتُ منه ابتعد عني؟!
إن الأهرام مهما رسخت جدرانها وتوطَّدت قواعدها والتحمت صخورها لا بدَّ زائلة. وقد نظرت يومًا إلى الغمام الذي يسبح فوقها في بحرٍ من الأثير، وسألت نفسي: أي الاثنين أخلد؟ أتلك الصخور الراسخة الباذخة أم تلك الأمواه التافهة المُتجمِّعة في كتلةٍ تُحوِّلها وتذيبها أشعة الشمس اللطيفة؟
نظرتُ إلى حبَّات الرمل الحقيرة التي تُعَدُّ في موضع القدم بالملايين، وسألت نفسي: أي الاثنين أخلد؟ أتلك الأهرام العظيمة ذات الأحجار الجسيمة أم تلك الحبَّات الحقيرة؟
نظرتُ إلى ذرَّات الأثير في الهواء، وهي لا تُرى بالعين ولا تُلمس بالكف؛ لأنها ألطف من اللُّطف، وسألتها: أأنت أخلَدُ أم ما شادَه مائة ألفٍ من بني الإنسان في ثلاثين عامًا من الزمن؟
فأجابني الغمام وحبَّات الرمل وذرَّات الأثير: «ألا إننا جميعًا أخلد من أهرامك الزائلة؛ لأننا كنَّا قبلها وبعدَها سنكون، أما هي قبل رفع دعائمها فلم تكن وبعد انقضاضها لن تكون!»
أليس هذا هو الخلود الذي تُوعدون؟ إن حبةً من الرمل وقطرة من المطر وذرة من الأثير أبقى على مدى الدهر من حياة الإنسان وأعظم أعماله!
بل ماذا فخرنا وخلودنا؟ وما هي تلك الإنسانية المُعذَّبة الضالَّة المُضِلَّة؟ ألا يُذْكَر اسم كاتيلينا كلما ذُكِرَ اسم شيشرون؟ ألا يخلد اسم الإسخريوطي خلود اسم المسيح؟
يا نفسي الضعيفة الجاهلة، ويا فؤادي المعذَّب الضال، كيف السبيل إلى القوة والعِلم؟ كيف الطريق إلى الهُدى والسعادة؟
يا قوى الأرض الظاهرة والكامنة، يا أسرار الحياة الواضحة والباطنة، هل عندك لتلك الأسئلة من جواب؟ بل أنت أيَّتُها الإلهة القديمة، يا ذات التصرُّف في العوالِم كلها، هل لدَيك قول فيه فصل الخطاب؟
إنَّ حِكمة الفلاسفة مُذ كانت البسيطة في طفولتها وحِنكة العلماء بعد أن بلغتِ الإنسانية كهولتها وكُتُب السماء والأرض؛ كلها عاجزة عن الجواب.
إنَّ الناس حولي يذهبون ويجيئون، وهم في كل لحظةٍ يحزنون ويفرحون، ويعيشون ويموتون، وإن لهم لأصواتًا يملأ دَوِيُّها الفضاء، ويضيق دون تموُّجاتها الهواء، ولكنني إذا ألقيتُ على الإنسانية سؤالي سكنتْ حركتها، وهدأت أصواتها، وصمتتْ أفواهها، ورفعتْ أيديها إلى علٍ كأنها تظنُّ به ما يشفي غليلها ويُطفئ نارها، ثم تعود مُطرقةً برأسها إلى الأرض بندمٍ يُخالطه اليأس!
مسكينة أنت أيتها الإنسانية! إنك مخدوعة كما يُخْدَع عشاق المجد، إن ما يخدعهم وهْمٌ باطل، إكليل من الغار يظهر أمامهم ويختفي، ستضعه الربة الخادعة على قبورهم لا على رءوسهم.
أما ما يخدعك أنت فأكبر وأعظم ولكنه خيال.
إننا جئنا إلى هذه الأرض اعتباطًا، ونعيش فيها، وسنذهب عنها كذلك، وحظنا في يد قضاء أعمي ظالم يُقسِّم بيننا الأفراح والأتراح بلا عدل ولا نظام.
أيتها الربة الخادعة، كم أقبلتُ على لذَّة أحتاجها! وكم تعلقتُ بمخلوق أحبه! وكم سكنتُ إلى مكان أرتاح إليه؛ فحرمتِني لذتي، وأبعدتِ محبوبي، وأقفرتِ مسكني، وقلتِ لي: إيَّاك واللذَّة والمحبوب والراحة؛ لئلا لا تنال الجائزة!
إنَّني لا أزال أَسيرُك بعد أن كنتُ تبيَّنتُ غدرك وخداعك، إن قوةً كامنة فيك وخفية عنِّي تجذبني إليك رغم إرادتي، تُرى أتدري الإبرة سِرَّ الشمال؟ أم يدري الفَراش معنى اللَّهَب؟
إنني فريسة ظالمَين لا يُشفِقان ولا يرحمان: روح حائر، وحب قاهر؛ الأول لا يقرُّ له قرار، والثاني يجلب العذاب والضجر!
النشيد الثالث: تعذيبي وتعليلي
رأيتُ نفسي في الطريق وحيدًا بعيدًا عن الناس، غريب الوجه فيهم والقلب والجنان، فتأمَّلت قليلًا في حالي وأطرقتُ ثم بكيت.
بكيتُ طويلًا؛ لأنني غريب هنا، وغريب هناك، غريب في وطني وغريب في سائر الأوطان، أشعر بأنَّني في حُلمٍ عميق تُنبِّهني منه كبار الحوادث، فلا أوشك أن ألتفتَ حولي حتى أعود إلى وادي التيه الذي أهيم وأتألَّم فيه.
إنَّ آلامي كتيَّار الكهرباء، إيجابية وسلبية؛ آلامي الإيجابية هي التي أشارك فيها غيري من البشَر إلا أنها مضاعفة حادة، ما يخدش سواي يجرحني جرحًا مؤلمًا، وما يجرح غيري يُدميني، مِتُّ مرارًا وبُعثت، نعم، مت، انفصلتُ عن العالَم مرة واحدة، وسكنَتْ نفسي واكتفتْ بذاتها، ثم عُدتُ إلى الحياة من جديد، لنفسي في كل حينٍ سياحة تطُوف فيها بعوالم غريبة وتزور فيها شقيقاتها ثم تعود، وبعض هذه السياحات قصير وبعضها طويل.
بعضها لا يدوم أكثر من لحظةٍ وبعضها يطُول أشهرًا.
وما الموت إلا إحدى تلك السياحات!
أما آلامي السلبية فهي لي وحدي، وليس لها سبب معروف؛ تعذيب مُستمر، وتعليل طويل، لا تمضي لحظة إلا ولي ألَم جديد، أريد شيئًا ولكن لا أدري ما أريد، لقد جئتُ إلى الحياة فوجدت بها قومًا لا أعرفهم؛ فاتَّخذتُ لي ركنًا ولزمتُ الصمت.
إنني أشعر بنقصٍ فيما حولي، وسأبقى مُصغيًا مُشرئبًّا متطلعًا التماسًا لصوت ألِفَتْهُ أذني ووجه تعوَّدتْهُ عيني ونفس تفتقدها نفسي، ولكن صوت مَن؟ ووجه مَن؟ ونفس مَن؟!
أيتها الإلهة الجليلة القاسية، إنني ألتمس صوتك ووجهك ونفسك! إنني أشتهيك كما يشتهي العاشق معشوقته، إن الحبَّ الأفلاطوني لا يكفيني، أريد حُبَّ أبيقور، أريد أن أتمتَّع بك، أريد أن أعبث بك وأقهرك كما عبثتُ بالألوف وقهرتهم!
إن بيني وبينك ثأرًا قديمًا وجهادًا طويلًا!
•••
أمرتِ واحدًا أن يضرب في الأرض ويسير في مناكبها، فهجر وطنَهُ وأهله في مُقتبل عمره، وقطع العالَم من المشرق إلى المغرب، وهو يهبط الوديان تارةً ويتسلَّق الجبال أخرى، ويُعاشر الوحوش الكاسرة مرة ويُعرِّض نفسه لِحيتان البحر مرة ثانية، وكلَّما وهن عزمُه أو هبطت هِمته دفعتِ به بيدك القوية دفعة أخرى فتجدَّد فيه ما أخلقه الضَّنى وأبلاه الضنك، ولا يزال كذلك حتى يلقى حتفَهُ في أواسط القارة السوداء بين نوع من بني الإنسان لا يأنف أن يأكل الإنسان، حينئذٍ تضحكين ملء فيك، وتتركين جُثَّته الخامدة. لقد تمَّ لك ما كنتِ ترغبين ولكن ماذا جنى؟ إنك تُوعزين إلى أبناء جنسه البُسطاء فيقيمون له قبرًا عاليًا، وينحِتون صورته في قطعةٍ من المرمر، ويضعون فوق رأسه أكاليل الغار؛ لأنه كان مُكتشفًا!
•••
وهذا الثاني أسكرْتِهِ بخمرتك التي إذا ذاقها المرء مرةً لا يفيق حياته، وقلدتِه سيفًا، وأركبتِه جوادًا، وأشعلتِ نفسه بنارك المقدسة، وأودعتِ عينيه لمعةً وضية، وقلتِ له: اصرخ في الناس يهابوك، ومُرِ الجند يطيعوك، واتبعني أفتح لك الأرض وأُقلِّدك صولجانها وأُجلسك على عرشها!
فسار ورفع صوته، فأصغتْ إليه الأُمَم، وجرَّد سيفه فوجمَتِ الجيوش، وحمل على الممالك فتقهقرت أمامه الملوك، أشار بيده فسقطت التيجان من على الرءوس، وانثلَّت العروش، مخرَتْ جنوده الأنهار وراءه، وشقَّ البحر بِمُهنده فجفَّ ماؤه، واعتلى صهوة جبال الألب، وأذاب بأنفاسه الحارَّة جليد روسيا، ووهبوه سيف فردريك الكبير، فقال: سيفي أولى وأجدر بي.
نَصَّب إخوته وأقاربه وأصدقاءه ملوكًا، وصيَّر لنفسه في كل مملكةٍ بلاطًا، مد يده إلى الشرق فسجد أمامه، بعد أن قهر الغرب فقبَّل أقدامه.
وهبتْهُ القياصرة كنوزها، وخطبت ملكات الأرض رضاه، وأوشك أن يقول لمن حوله: أنا ربكم الأعلى! ونظر إلى وجهك فرأى بسمة فتانة فسألك، فقلت له: إلى الأمام ولو فوق الأجسام.
إنك كنتِ لا تزالين تشجعينه؛ لأنك كنت لا تزالين تشتهينه
فنظَّم الحكومات، وسنَّ القوانين، حفَر اسمَهُ في لوح الخلود بجانب اسم صولون وفيثاغور، بعد أن حفرَهُ فوق أسماء الإسكندر وقيصر وهنيبال.
ثم ماذا؟ ثم استغنيتِ فتخليتِ عنه، فهزَمَه الأعداء شرَّ هزيمة وهو يقود خير الجنود. يقولون: إنه شاخ فنسِيَ فنون الحرب. كلَّا، يقولون: إنه ضعُف ذِهنه وكلَّت ذاكرته. كلَّا، يقولون: تكاثُر الأعداء، وثبات جأش ولنجتون، وحذْق بلوشر. كلَّا! السبب سهل ولكنه غير معروف.
أنت — يا إلهتي المعبودة المحبوبة — استغنيتِ فأغضيت، أنت — يا ربة الحكمة الكبرى ويا حافظة السر الأعظم — تخليت فأبليت. أنت — يا فاتنة العظماء، ويا خاذلة الأقوياء، وناصرة الضِّعاف — تحوَّلت فحوَّلت.
كالمعشوقة الصبية تُنهِك عاشقها فيشيخ، فتنأى عنه لتُقرِّب فتًى جديدًا.
لو كان هذا العاشق متواضعًا أما كنتِ تُحسنين إليه في غضبك إحسانك إليه في رضاك؟ كان لا يريد أن يُرغَم، ولكنه كان قوي القلب والنفس، فرميتِ به في جزيرة قحلاء في وسط المحيط، وقضيتِ عليه أن يقضي ستَّ سنين على الصخر المُحاط بالأُقيانوس؛ لعلَّه يلين، فلم يزدَدْ إلا قوة، فبطشتِ فقضى!
لقد اخترت رجلًا آخر، ولكنه فصيح اللسان قوي الجنان رحيب الصدر كبير القلب، فانتشلته من بين يدَيْ أبيه الوضيع واخترتِ له أن يحكم أمَّةً بأسرِها!
وأراد أن يخطو إلى الأمام خطوةً فقلتِ له بصوتك القاهر: مكانك. فوقف، فأمطرت عليه مصائب؛ نصرت عليه أعداءه وأعداءك! خطفت من أمامه أمَّه، وأغضبتِ معشوقته؛ فهوى كمن هوى من قبل، وواريتِ رُفاته لحدًا مهجورًا بين وطنه القديم والجديد.
إنني أرى قسوتك بعينيَّ وألمسها، ولكنني لا أستطيع الابتعاد عنك، إنك تجذبيني؛ لأنني أضعف منك، أليس القضاء عبدًا من عبيدك؟ أليس الدهر رمزًا عليك؟ أليست صلواتنا وتهجُّداتنا وآهاتنا مُتوجِّهة إليك؟
يا ربَّةَ المجد، ليس لنا من يدك مفر، ولكننا لن نجهل صنعك، إنَّ عِلْمنا بمسيرنا يُعزينا.
النشيد الرابع: مبصر وضرير
كنت في حياتي أستنجد بالقوى الخفية، وأستغيث بالآلهة المستترة، ولكنني منذ اليوم أستنجد بالقوى الظاهرة، وأستغيث بالأرباب التي أراها أمام عيني، كنتُ أحسب أن كل عظيم لا تراه العين البشرية، وأن عالَم الخفاء وحدَه هو الشامل للعقل العام والنفس المدبرة، ولكنني أصبحت اليوم أرى ذلك العقل وتلك النفس فيما حولي، فيما يقع عليه نظري، فيما يسرُّني ويُحزنني، فيما تشعر به روحي وما يلمسه حسِّي، في المُحيَّا الجميل، وفي الوجه المشوَّه، في البحيرة العميقة وفي الجبل الباذخ، في الزهرة البديعة، وفي الشجرة الظليلة، إني أرى العقل العام والنفس المدبرة في عقلي ونفسي كما أراها في كل ذرَّةٍ من ذرات الوجود.
إذن لا سِرَّ هناك ولا ستار، إنما هناك مبصر وضرير، أما الحكمة الكبرى فلم تتغير ولن تتغير، وما رآه سقراط وباح به لتلاميذه واستهان الموت لأجله ما أراه الآن أمام عيني وأكاد أمسكه بيدي. يا معابد مصر الجليلة، احتفظي بأسرارك المكنونة، ويا كهنة لاهاسا، لا تبوحوا بالخفايا المكتومة؛ فلست في حاجة إليها. إن قلبي صار معبدًا، ونفسي صارت هيكلًا، وعيني اخترقت حجب الوجود.
نظرتُ إلى طبائع الأشياء فدعتْني إلى الإمعان والتأمُّل. ملأت المطامع نفسي فدعتني إلى العمل، أحببتُ قومي وأرضي فعلَّمني الحب الإخلاص، عشقت الرجال والنساء فشقِيتُ في العشق تارةً وسعدت أخرى، أبغضتُ أعدائي واحتقرت حسَّادي وأضدادي فامتلأ صدري بالعواطف المتضاربة، تمنَّيتُ ونلتُ بعض الأماني وخسرتُ معظمها، فعرفتُ كيف تكون لذَّة الفوز وكيف تكون حسرة الفشل، فارقني أعزتي فراقًا أبديَّا فبكيتُهم وبكَّيتُهم، ووقفت على قبورهم حاسِر الرأس خاشعًا، وسجدتُ حيال أجسادهم البالية كما سجدتُ في صباي حيال المسجد الحرام. قاسيتُ مرارًا آلام الجوع والتعب، وشعرتُ تكرارًا بوخزات الحاجة، وكذلك أحسنت إليَّ الطبيعة حينًا فلم تحرمني ما كنتُ أشتهي إلا قليلًا، اتخذت من الناس رفاقًا، وأخلصتُ لهم فلم يُخلصوا لي، أحببتُهم وأبغضوني، كنت أرجو الخير لهم، وهم يحسدونني، رأيتُ لي في كل مكان عدوًّا، وأنا أريد أن أكون صديقًا للجميع.
كل تلك الحوادث الصغيرة في ذاتها الكبيرة إذا اجتمعت علَّمتني معنى الحياة، وكشفت لي الستار عن معظم الأسرار، إن ذنوبي هذَّبتني وذنوب غيري أرشدتني، تاريخ الأمم رسم لي الخطة الكبرى، وتاريخي أضاء لي السبيل، لم أُضِفْ إلى قهقهة الضاحكين إلا ابتسامةً فاترة، ولكنني أضفتُ إلى المُحيط الفائض بدموع البشَر نهرًا غزيرًا، وكل دمعةٍ لها عندي قصة، كل دمعة من دموعي ليست إلا ذنبًا مُتبلورًا أو عاطفة سائلة في ذمَّة المُحيط العظيم الذي تتدفق فيه هموم الإنسانية؛ تلك الدموع الغالية، إن كان هناك عالَم للأرواح فذلك المُحيط مُحلق به؛ لأن النفوس لا تطيق الانفصال عن أحزانها. أحزان نفسي ثيابها، وهمومها طعامها وشرابها.
سأترك سطرًا لأبناء القرون القادمة كما ترك لنا مُفكرو العصور الخالية أسطرًا، إن أبناء كلِّ جيلٍ لا يحبُّون مُفكريه ولا يتَّعظون بقولهم ولا يريدون سماع صوتهم؛ لأنهم منهم ومِثلهم، لأن حياتهم أمامهم، لأنهم يعرفون أشخاصهم، لأن بصرَهم وقع عليهم؛ والإنسان قليل الثقة فيمن يُعاصره. كلُّ ما يُدني الفتى من القبر يُدنيه من المجد الحقيقي؛ لأن الموت وحده قادر على أن يزيل ما يُحيط بنا من التُّهَم، هو ترياق السموم كلها، هو مُطهِّر الإنسان من عيوب الحياة الفانية.
كان لبعض الناس دين ثم ذهب، وكانت لهم عقيدة، ولكنها ولَّت، فجاءهم دين جديد، وألبستهم عقيدتهم جديدةً حُلَّتها، هذا القول كافٍ ولا أزيد، ليسوا يخشون أن يُعذبهم رجال الدين؛ لأن أقل حسنات هذا الزمان حرية الأديان، وليسوا يخشون أن يبتعِد عنهم الناس؛ لأن معظم الناس جبناء ويخافون مَن يقول الحق جهارًا، ثم إذا قاطعوهم فمن هم الناس حتى تُحزنهم قطيعتهم؟ أليسوا تلك الموجودات الضعيفة التي يشتريها معدن دنيء يُسمَّى جهلًا منها نفيسًا؟ أليسوا هم آكلو لحم بعضهم بعضًا؟ أليسوا هم الجناة على نفوسهم ثم البارئون من ذنوبهم إلى أربابٍ لا يعلمونها ولا يشعرون بوجودها؟ أليسوا هم ذلك القطيع الأبله الذي يأبى أن يسير بلا من يَسُوقه بعصاه، ثم إذا داهمهم الذئب سلَّموا إليه حارسهم ليفترسه؟ بخٍ بخٍ أيتها الإنسانية الآكلة المأكولة! بخٍ بخٍ أيتها الأنعام الظالمة المظلومة! إنك لا تستحقِّين عناية عقل كبير، ولستِ خليقة بإحسان نفس كريمة.
لماذا طرد فرعون بني إسرائيل من مصر ثم تبِعَهم بجنوده؟ لماذا سخِر بنو إسرائيل من عيسى ثم صلبوه؟ لماذا حاربت قريش محمدًا ووصمتْهُ بالجنون ورشَقَهُ فتيانها بالحجارة؟ لماذا انتقم نيرون من أتباع المسيح بتعذيبهم وإحراقهم وإطعام الوحوش أجسادهم؟ لماذا ذبح الكاثوليك إخوانهم المُحتجِّين كما تُذبح الشاه؟ لماذا أحرق كالفان الأستاذ سرفيه، وكفرت الكنيسة جاليليه؟ ولماذا أمر أحد خلفاء الأندلس السُّوقة أن تبصق في وجه ابن رشد، وأمر سواه بإحراق شِعر المعري؟ لماذا وقع جمال الدين أسيرًا في الأستانة وبقي فيها حتى قتلوه؟ لماذا قضى أعداء إميل زولا عليه في بيته وهو في جنب زوجته؟
لأن موسى وعيسى ومحمدًا وبولس ولوثيروس وسيرفيه وجاليليه وابن رشد والمعري وجمال الدين وإميل زولا؛ كلهم فقهوا ما لم يفقه مُعاصروهم، وفطنوا إلى كلمةٍ لم يفطن إليها سواهم، وقالوا بما لم يقُل به أحد قبلهم.
إذن هي غيرة الإنسان من الإنسان، هذه آثار حسد الجاهل لِمن عرَف، حسد الضعيفِ القويَّ.
حقد الضرير على المُبصر، لا أكثر ولا أقل! وقديمًا كان في الناس الحقد والحسد.
مسكينة أيتها الإنسانية!
إنني الليلة لم أَتَغَنَّ بذِكر آلهة المجد، ولكنني رَثيتُ بني آدم.
النشيد الخامس: أين العدل الذي تدَّعون؟
هل يأتي يوم نفتح فيه قلبَنا ونشكو همومنا لمن نحب؟ أم ننزل إلى قبورنا صامِتين كاتمين أسرارنا في أفئدتنا الحزينة؟
هل يأتي يوم ننظُر فيه إلى الماضي باسمين بسمة ربان السفينة بعد العاصفة عند إشرافه على ثغرٍ أمين يلجأ إليه فيقيه كلَّ خطر.
هل يأتي يومٌ ننظُر فيه إلى الماضي السحيق نظرة الاطمئنان والفوز بعد الصبر المُكلَّل بالظفر؟
أجيبيني أيتها النفس، فقد عوَّدتِني الإشراف على المستقبل واختراق حجب الغيب، أجيبيني أيتها النفس، ماذا تَرين مُخَبَّأً لنا في ثنايا الأيام وزوايا الزمان؟
كم حدَّثتِني بحوادث صادقة! وكم نبأتِني بما لم يكن لي به من عِلم!
إني أراك تتردَّدين بين الشك واليقين، أراك تختلجين بين النور والظلام.
سبيلك اليوم غير واضح، ودربُك وعر، والخطة التي رسمَها لك الدهر غير جليَّة.
مسكينة أنت يا نفسي! لقد أمرضك الصبر الطويل، وأضعفك التمنِّي والتعليل.
رأيتُك قديمًا ذات أجنحةٍ من العزم والهمَّة، وبصَرٍ نافذ كأنك استعرتِهِ من نور منرفا، وقلب قوي يقودك بجأشٍ ثابت إلى أصعب المعارك وأوعر السبل، فكنتِ تُحلِّقين بأجنحتك وحيدة كالنسر الجليل إلى أرقى سموات الفكر البشري، وتخرقين ببصرك الحاد حجُب المجهولات والخفايا، وتقاوِمين بقلبك أشدَّ العقبات وتتغلَّبين عليها، كنت — يا نفس — مملوءة بقوة الشباب، كنت بين النفوس بكرًا ذات جمالٍ وعفة.
أما اليوم فقد نالت منك الخبرة منالها، ولقَّنتك الأيام درسًا مرًّا؛ فقلَّلت من حدَّتك، وألانت من شدَّتك، وعلمتكِ الوقوف عند حدِّك.
ولكن أيتها النفس هل لك حدٌّ تقفين عنده؟
هل هناك أُفق ينتهي لديه بطشك؟ هل في الكون كله دائرة لا مجال لك وراءها؟ كلا، أيتها النفس، إن العقل والحق والعدل والطبيعة كلها تُبيح لك الكل؛ لأنك الكل في الكل، أنت سيدة مطلقة، ومالكة متصرِّفة فيما يقع تحت حسِّك من سماء وأرضٍ ونور وكواكب وبحار وعوالم خفية لا أراها أنا وترينها أنت بعينٍ ترى كل شيءٍ ولا يغيب عنها في الوجود ذرة!
يقولون: الإنسان حقير في جنب الخليقة، وأنه أقلُّ من ذرَّةٍ حيال العوالم الكبرى. كذبوا! إنهم لا يعلمون، قد يكون الإنسان حقيرًا بجسمه، ولكن ليس الجسم في نظري شيئًا مذكورًا، ولكنه عظيم بنفسه وهي كلُّ شيء.
هل لنا غرَض عظيم نسعى لنُدركه؟ هل للإنسانية التي قضت ألوف الألوف من الأجيال في جهادٍ ضد العناصر الأولى وضد قوى الطبيعة الظاهرة والكامنة غاية كبرى يسير إليها من يبقى من البشر ممَّن لا يهلكون في الطريق؟
أم نحن مخلوقون عبثًا للتعذيب والفناء؟
لماذا تُرْفَعُ الأصوات في كل صباح ومساء بالصلاة؟
لماذا تشرق الشمس وتغيب؟
لماذا يسعد قوم ويشقى آخرون؟
لماذا كُوِّنَتْ هذه الأرض ومُلِئَ سطحها ماء، وتحت الماء نار تتأجَّج؟
لماذا يُسَاءُ إلى البعض ويُحْسَنُ إلى الآخرين؟
لماذا يُرَادُ بالبعض شرٌّ، ويريد الله بالبعض خيرًا؟
لماذا يتحكم الإنسان في أخيه الإنسان، ويساعد الظالمَ كثيرون، يُمنُّون المظلوم بالهناء والرفاء بعد الممات بسنين؟
لماذا يذنب البعض فيجني غيرهم ثِمار ذنوبهم ويحتملون ما كان مَقسومًا لهم من عقابٍ وعذاب أليم، أليست هذه قِسمة ضيزى وظُلم عظيم؟
تُرى، تُنسى ذنوب من نريد التكفير عن سيئاتهم؟
تُرى، تُمحى خطاياهم ويبقى لنا نصيبنا من التعذيب؟
إنهم يقولون: في الكون عدل وميزان لا يَعتريه اختلال ولا يأتيه الباطل من بين يدَيه ولا من خلفه، ويرفعون أصواتهم مُهلِّلين كلَّما انتقم الحُكام من مجرم أو كلَّما وقع ظالِم في مخالب مظلوم.
ولكن مكانَكم أيها الناس! هذا الذي تُهللون وتكبرون لأجله ليس إلا من نوادر الحوادث ومُستثنَيات القواعد. إنهم انتقموا اليوم من مُجرم أوقعه سوء حظِّه في أيديهم، ولكن كم مُجرم يقترف أفظع الذنوب فلا يُرى أو لا تناله يدُ العقاب!
وإن انتقمتُم اليوم من ظالمٍ لمظلوم فكم وكم من ظُلَّام فرُّوا، ولم تَنَلْهُم يد العدل الذي تدَّعون! وكم من ظالمٍ يُعاصرنا نرى ونسمع ونلمس فظائعه ولا نستطيع أن نقول له مكانك؛ لأنه قادر أن يَسحقَنا بقوَّتِه!
إنَّ أممًا لا تُحصى ولا تُعدُّ لا تزال بأسرِها في أسرِها. إن أجيالًا من السنين مرَّت متواترة مُتعاقبة على العالَم وهو يئنُّ من ظلم الظالمين؛ فأُهْرِقَتْ الدماء، وأُزْهِقَت النفوس، وانْتُهِكَت الأعراض، وأُهِينَت الحقوق، فأين كان العدل الذي تدَّعون؟
تقولون إن ذنوب القرون الأولى انْتُقِمَ لها في القرون الوسطى، وذنوب القرون الوسطى انْتُقِمَ لها في العصر الحاضر. قد يكون هذا، ولكن لقد جاء العدل مُتأخرًا. وماذا يعود على المريض إذا أسعفَهُ الطبيب بالعلاج وهو دفين؟!
بل ماذا عاد على المسيح من العدل بعد أن صلبوه؟ وماذا استفاد جاليليه بعد أن قذفوا به من حالق؟ وميشيل سرفيه بعد أن أحرقوه؟
الناس أَلَّهوا الأول وعبدوه، ومجَّدوا ذكر الثاني وعظَّموه، وأقاموا للثالث تمثالًا؛ نكايةً فيمن ظلموه، ولكن ألم يَقُل المسيح وهو يحتضِر: يا إلهي لماذا تركتني؟ ألم يُدَقَّ عنق جاليليه وهو مُكتشف دورة الأرض؟ ألم يُحْرَق سرفيه حيًّا، وهو أول قائل بدورة الدم؟ ماذا أفادت الأول عبادة الناس له، والثاني تبجيلهم ذِكره، والثالث إقامة التماثيل؟
إن هذه الجرائم تُكَرَّرُ في كل عشيةٍ وأصيل، وكل جيلٍ حافل بذكر فظائعه ومظالمه، فلو قُلنا إن العدل جاء مُتأخرًا في بعض الحوادث، فلماذا يجيء مُتأخرًا فيما يتلوها؟ لماذا أُحْرِقَتْ جان دارك؟ ولماذا ذُبِحَ دافل؟ ولماذا عُذِّبَ أيوب؟
إنَّ الناس ينقمون من محاكم الأرض البطيئة، أخطئوا، فلينقموا على محكمةٍ أخرى؛ فإنها أبطأ المحاكم!
النشيد السادس: الحقيقة
ليس في الدنيا صديق!
ليس في الدنيا بأسرِها صديق واحد يُمكنني أن أجلس إليه وأفتح له خزائن قلبي، وأمنح فؤادي الحزين أمامه الحرية المُطلقة ثم أبكي وأبكي وأبكي حتى تعود دموعي قطراتٍ من الدم القاني فأسمع منه كلمات الأسى والحزن والإشفاق، وترفع نفسه النقاب عن الإخلاص لي فيهدأ بال نفسي الشقية. لم أكن خيِّرًا في هذه الدنيا كما تطلُب منا الأديان والآداب الموضوعة، وكما توحي إلينا روح الخير التي تُرفرِف على العالَم بجانب روح الشرِّ الفظيعة. إنَّ فيَّ عيوبًا كثيرة، وفي أخلاقي نقائص ومَساوئ كغيري من البشر، ولكنَّني — وا أسفاه! — عاجز عن الخلاص منها دفعة واحدة، وإن قدرت على بعضها فإنني آتي عليه بالصبر والجهاد والثبات، وأفرغ جهدي في الخلاص من البعض الآخر، ولكنَّني واثق من أنني لا أزال بعيدًا عن أول مرتبةٍ من مراتب الكمال، على أنني مع هذا لم أمسَسْ أخًا لي في الإنسانية بِشَرٍّ، وليس في قلبي الحزين مكان للحقد والغيظ، وإن كان هذا القلب يعرفهما فهو لا يعرِف إلا حقدًا وغيظًا وهمِيَّين لا يَسكنانه إلا ليُفارقاه في لمحةٍ من الزمان، وإن ملكت الشر لخصم فهيهات أن أنتقم لنفسي منه، ولم ينلْ عدوًّا من أعدائي خيرٌ إلا سرَّني، فلماذا يا إلهي؟ إن كنت تسمع صوتي، لماذا ليس لي في الدنيا صديق؟
إنني أتحاشي الذنوب لا احتفاظًا بوداد الناس؛ إنما لأنَّني لا أُريد أن أكون مذنبًا أمام نفسي، وإذا اقترفتُ ذنبًا فليس هذا في طاقتي منعُه ولا بدَّ أن يكون من الذنوب القهرية التي هي أقوى منِّي وأشدُّ من طبيعتي، ثم إنَّني إذا اقترفتُ ذنبًا لا أدَّخِر وسعًا في الاستغفار منه والتوبة عنه والحزن الشديد عليه حتى أمحوه بدموع قلبي. ليس يشغلني أيعرِف الناس هذا أم لا يعرفونه، فلماذا — يا إلهي — ليس لي في الدنيا صديق؟
إذا كانت ذنوبي الخصيصة بي هي الوحيدة في صحيفة هذا الوجود، فإن استغفاري وندمي وأسفي جديرة بأن تمحوها، ولكن لكل الناس ذنوبًا كذنوبي، ولكلِّ الورى حتى الحُكماء منهم عيوب، وكثيرون لا يكلفون أنفسهم مشقَّة الندم والاستغفار، ويستكبرون أن يخضعوا أمام النظام القاهر، ويسيرون في طريق العصيان، فيهابُهم الناس ويُحابونهم، بل تُحابيهم الطبيعة نفسها، وتمنحهم عطاياها، وتُخلص لهم القلوب، فهل هذا هو العدل الطبيعي، أم هذا خداع تراه العين البشرية فتظنُّه حقًّا وهو خيال باطل؟ إذا كان هذا خيالًا باطلًا والطبيعة والإنسانية تحترمان الحبَّ والإخلاص والحق، وإذا كان الله العظيم يعفو ويصفح فلماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟
إذا كان العالَم قائمًا على الخداع والغش والنفاق والاحتيال والقوة الغشومة، ولا يفوز في مَيادينه الصعبة ولا يحمِل تيجان الفخار فيه إلا الأنذال والأشرار الذين يُتقنون صناعة الختل والظلم ويبقى المُخلصون مُهانين أذلَّاء مُعذَّبين فيه، فليقنع الأخيار بأنصبتهم! ولكنهم يقولون إنَّ الباطل لا يدوم، وإن الظلم زائل، وإن الحق هو السيد السائد في نهاية الأمور. وأراني رغم ما أراه من حوادث الحياة المُحيطة بي في كل صباحٍ ومساء، في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ ميَّالًا لهذا الاعتقاد، مُحبًّا لنصرة العدل والحق. فلماذا — يا إلهي — ليس لي في الدنيا صديق؟
أليس في هذه الأرض إنسان مِثلي، عواطفه كعواطفي، وخِلاله كخلالي، وضعفه كضعفي، ومُعتقَده كمُعتقَدي، فنأتلِف ونتَّحِد، وأُعزيه ويُعزيني، وأعيش على الغذاء الذي تُقدِّمه نفسه لنفسي، ويعيش هو أيضًا على الغذاء الذي تُقدِّمه نفسي لنفسه؟ إذا كان في العالَم هذا المخلوق فأين هو؟ وكيف أن الطبيعة العظيمة التي تزن الحوادث بمقدارٍ معلوم وتُدير حركات القضاء والقدر وتُدهش العالَم بالمُخبَّئات الغريبة والاتفاقات العجيبة التي يُسمِّيها البشر بجهلهم وغباوتهم وعماهم عن النظام السائد «مصادفات»؛ كيف أن تلك الطبيعة لم تجمعني بعدُ بهذا الصديق؟ وإن لم يكن في الأرض مثل هذا المخلوق فلماذا لا تجود به العناية؟ لماذا تُرِكْتُ وحيدًا فريدًا باكيًا مُنتحبًا صارخًا من أعماق نفسي: ليس لي في الدنيا صديق؟
إنَّ البعض يرَون في ذلك حكمةً اخترعوها وتعليلًا ابتدعوه، وهو أنَّ النفوس لا تنضج إلا بالآلام والأحزان، وأنَّ الطبيعة إذا اختارت بعض النفوس هيَّأت لها من أسباب الهموم لتُنضِجها؛ لذا كان سائر الفلاسفة والأنبياء وقادة الأمم والشعراء على نصيبٍ وافرٍ من العذاب الأليم؛ ولذا كانت تلك الآلام دليل السعادة العقلية. فهل هذا — يا أيتها الطبيعة — حقٌّ وصدق؟ وهل تلك النار المُشتعلة في القلوب وتلك الآلام التي تلذع كأنياب الأفاعي ويُشْعَرُ بها في الفؤاد كما يَشعُر الملسوع بالسُّموم تسري في بدنه، هل تلك الآلام هي نعمة في شكل نقمة، وسعادة في شكل شقاء؟ هل النفس الحزينة هي من تلك النفوس التي أرادتها الطبيعة لتكون شموعًا تضيء للإنسانية وتحرق ذاتها؟ هل النفس المعذبة شُعلة وهَّاجة تفنى لتُنير للغير؟ هل هي ضحية من ضحايا الإنسانية التي تُقاسي الآلام في الحياة لتُمَجَّد وتُعْبَد بعد الموت؟
إذا كان هذا فلترضَ النفوس المُعذبة بقِسمتها، ولتقنع بنصيبها، ولا حاجة لها بعد اليوم إلى الشكوى والنجوى، ولن تُسائل الآلهة بعد الساعة: لماذا ليس لنا في الدنيا صديق؟
ولكن وا حسرتي! وا ندمي! إذا كان هذا الحلم اللذيذ السعيد وتلك الفكرة التي ينادي بها الناس ليست إلا صورةً في الخيال كالصور البديعة التي يُمنَّى بها الأشقياء في هذه الحياة؛ لتَخفَّ عنهم آلامهم فيموتوا ويذهبوا صابرين كاظمين، وحقيقة الأمر أنَّ نظام العالم اختار لهم الشقاء الأبدي، وليس لهم جزاء لا هنا ولا هناك!
وا حسرتي! إذا كانت تلك الأمنية العذبة هي كحُقنة الأفيون تُؤْخَذُ لتسكين الآلام المُتحرِّكة، فإذا سكنتِ الآلام عادت إلينا الحقيقة سافرة هازئة بأمانينا وخيالاتنا.
إذا كانت هي الحقيقة المجرَّدة وقضت علينا العناية التي تُدبِّر الحياة البشرية والتي لا يُعْرَفُ كُنهها أن نبقى كذلك، وأن يتمتَّع سوانا حالَما نُقاسي نحن أهوال الآلام النفسية والبدنية؛ فهل لنا من خلاص؟ هل لنا من مبدأ جديد نضع أساسه يُهيئ لنا أن نكسر بأيدينا الضعيفة تلك القيود التي قيَّدتنا بها الطبيعة، وأن نمحو آثار المظالم التي كتبها علينا أقوياء الأرض بلا ذنبٍ ولا جريمة، هل لنا أن ننفخ في صور الحزن العام الذي تشترك فيها الإنسانية بأسرها؟
أم هذه أيضًا هي خُرافات نفس مُعذَّبة إذا عاد إليها هداها وملكت رُشدها هدأ روعها وسكن اضطرابها واستسلمتْ لحُكم القضاء الظالم وخضعت أمام تلك المغارم؟ وحينئذٍ ينبغي للمُعذَّبين أن يُقيموا على الضيم حاسري الرءوس خارِّين إلى الأذقان مُنتظرين فراغ الكأس التي قُسِمَ لنا أن نجرعها، صابرين إلى اللحظة الأخيرة التي نُودِّع فيها هذه الحياة القاسية!
حينئذٍ ينبغي لنا أن نضع أيدينا وراء ظهورنا ليُقيِّدها القضاء بقيوده، وليَسُوقنا القدر أمامه مُطرقين كما كان الرومان يسوقون أسراهم ويدخلون بهم رومة ظافرين مُنتصِرين.
حينئذٍ ينبغي لنا أن نستسلم لكل شيء، ونقرَّ بعجزنا أمام من هو أقوى منا، وإذا شعرنا بقسوة النظامات الطبيعية والبشرية وشدَّتها، فلنهمِس في آذان بعضنا بأنَّنا مظلومون، ولنُشهِد أحجار الأرض وكواكب السماء بأنَّنا مظلومون؛ لأن إخواننا البشر لا يرحمون ولا يُشفِقون، وإذا أشفقوا ورحموا فليسوا بقادِرين أن يُخفِّفوا عنَّا مصائبنا، ودموع الإنسانية وآهاتها لا تمحو سطرًا واحدًا مما كتب القضاء على الجبين؟ إن هذا هو الضعف المُبين!
لكنَّني لا أتردَّد في كتابه هذه الشكوى «ورقة اتهام»، أتركها من بعدي؛ ليعلَم الناس حقيقة الحال، ورقة اتهام أدَّعي بها على قوى الكون جميعًا أنها كلها اشتركت في الجريمة التي قضت على الإنسانية بالآلام الطويلة التي ليس لها آخِر إلا بالموت الزؤام إذا لم تنفُضْ عن كاهلها غبار العجز.
الموت الزؤام! نحن الذين نبغض الحياة الدنيا ونحتقرها ونَعدُّ من يُحبها جاهلًا، نقول إنه موت زؤام. نحن الذين لم نَذُقْ في حياتنا إلا ساعاتٍ معدودة من سعادة موهومة كانت تعادلها سنون وشهور ذُقنا فيها صنوف الآلام، نحن نصِفُ الموت بأنه زؤام.
ألا إنه علاج سائر الأدواء!
أليس هو النهاية الكبرى لذاك الشقاء؟! فلماذا إذن ندعوه بالزؤام؟!
أليس أمامنا من الأسباب العقلية والنفسية ما يدعونا إلى حبِّ الموت والسعي إليه واستهانة آلامه إن كان فيه آلام؟ ولكن الغريزة الحيوانية الدنيئة أراها لاصقة بالحياة، أراها تُحبُّ العيش مهما كان مرًّا، وتُفضِّله على الموت مهما كان حلوًا. إذن فلنعش، ولنتألم، ولنذق صنوف العذاب، ولنشرب كأس الألم حتى حثالتها؛ ما دامت الطبيعة القوية جعلتنا نرجف ونرتعش من صورة الموت إذا تَخيلناها! أين أنتم يا فلاسفة الأرض ويا حُكماء الحياة؟ أين أنتم؛ لتحلُّوا معي ذلك اللُّغز الذي لا يُحل؟ أين أنت أيتها الحقيقة العظيمة المُتبرقِعة ببرقُع لم يجسُر ذوو أشد النفوس قوة على رفعه؟
أين أنت أيَّتُها الحقيقة الجليلة؛ لأسرع إليك ولأمزق ذلك النقاب الكثيف، ولأنظر إليك وجهًا لوجه، ولأقرأ في جبينك الوضَّاء حلًّا لمُعجزة الحياة والوجود؟
أين أنت أيتها الحقيقة المُستترة؛ لأصل إليك ولأشكو لك آلامي ومصائبي وآلام إخوتي في الإنسانية؛ لتُشفقي وتُمطري من عينيك الخارقتَين دموعًا تمتزج بدموعي وتنادي بصوت الأم الحنون: «إليَّ أيها الولد التائه الضال الحزين، إليَّ لأُخفف آلامك ولأسكِّن لوعتك.» ثم تُسفرين عن وجهك فأخرُّ أمامك ساجدًا صعِقًا كما خرَّ موسى من قبل أمام وجهك في جبل الطور؟
ألستِ أنت أيتها الحقيقة التي أوشكت أن تُشفقي عليَّ يومًا كنتُ فيه على رأس الجبل في بقعةٍ سحيقة من الأرض، وكانت السماء ممطرة والشمس تغيب وتظهر، وأنا أبكي من قلبي، فخُيِّل إليَّ أنني أسمع صوتًا وأرى وجهًا جميلًا، فخررتُ على حجرٍ وما زلتُ جاثمًا حتى نبَّهتني قشعريرة شديدة سرَتْ في بدني، فأسرعتُ منحدرًا وشعرتُ براحة وسرور؟
ألست أنت من حاولوا أن يكشفوا سِرَّك في هياكل أفريقيا ومعابد آسيا ثم عادوا خاسئين؟ ألستِ أنت أيتها الحقيقة التي تركتِ في كلِّ مكانٍ أثرًا من آثارك حتى إذا بلغه أحدُنا نحن المساكين أغويتِهِ وجذبتِهِ إليك ثم اختفيتِ من أمامه كالسراب الذي يخدع التائهين في الصحراء؟ إلى متى أيتها الحقيقة يبقى الإنسان ضالًّا تائهًا؟ وإلى متى يدوم ذلك السباق الأليم بين الجهل والعِلم وبين الباطل والحق وبين النور والظلام؟
اغفري لي أيتها الحقيقة، يا أم الأمم، ويا سيدة العوالم، ويا إلهة الآلهة! ويا من شُيِّدت لك الهياكل والمعابد، وأُقِيمَتْ لتمجيدك الكنائس والمساجد، وحلم بك كلُّ صاحٍ وهاجد؛ إذا تهجَّمتُ على مقامك الأسمى وطلبتُ منك طلبًا مجحفًا. اعذريني أيتها الحقيقة العظيمة إذا تسرَّب الشكُّ إلى قلبي وأسكرني الحزن وتغلبتْ عليَّ الآلام فكفرتُ يومًا بنعمتك وقلتُ ليس في الورى سوى الجهل والظلم والظلام، وأن الحقيقة التي ينشدونها عبثًا ليست إلا وهمًا من الأوهام.
إنَّ قلبي مملوء بك، ونفسي مُتشبِّعة بصورتك، وفؤادي ووجداني كلاهما يوقنان بك، ولكن ألستُ بشرًا ضعيفًا؟ ألستُ من تلك المخلوقات العاجزة الضئيلة التي تريد كلَّ شيءٍ ولا تنال شيئًا، التي تُسمِّي نفسها بالإنسانية؟ لقد رأيتُ أدلةً كثيرة تُثبِتُ وجودك، وعلمت بالخبرة أنك هنا وهناك، في العُلا وعلى الأرض، عن يميني وعن شمالي، أمامي وورائي، ولكن لَمَّا أُمسِك بعد بأهدابك، ولم أستطع مع شدة جهادي وثباتي وطول صبري أن ألمس ذيل ثيابك. أسمعك تأمُرينني بالصمت والسكوت، أسمعك تقولين لي: بُعدًا أيها العاجز الجاهل، إن الحقيقة لا تُمَسُّ ولا تُنَالُ بالحس. ولكن ألست بشرًا لا يرى إلا ما يقع تحت الحس؟ إذا كان هذا عيبي، فهل أنا وحدي المُذنب؟
لا أريد أن أعرف كل شيء؛ فليس هذا يهمني، وإن كان يُهمني فلست قادرًا عليه، ولكنني أريد أن أعرف شيئًا واحدًا: هل قُسِمَ لبعضنا أن يُسمعوا العالَم أصواتهم، وأن يُخرجوا قواهم إلى الأرض فيشعر بها ويراها كل البشر؟ أم قُسِمَ لهم أن تُكْتَم أنفاسهم قبل أن يصرخوا صرختَهم؟
إن كانت القِسمة الأولى من نصيبهم فجودي عليهم أيتها الحقيقة بالصبر والثبات حتى يقوموا بأداء الرسالة التي أردتها لهم، جودي عليهم بالطمأنينة كما تجود المعشوقة الجليلة على العاشق المسكين بكلمةٍ تسكُن نفسه إليها، قولي لهم اصبروا واعملوا، كما تقول المعشوقة الجليلة للعاشق المسكين: «أنت في حِلٍّ من حُبي، فحبني.» جودي أيتها الحقيقة ولا تتركيهم مُعذبين، جودي أيتها الحقيقة بكلمةٍ واحدة وكفاهم ألمًا، جودي بتلك الكلمة التي تكون غذاء نفوسهم إلى الأبد!
أما إذا كانت القسمة الثانية هي نصيبهم فاعبسي في وجوههم، وادفعي بهم بيدك القوية، واتركيهم يسقطوا في المِهواة السحيقة التي سقط فيها ألوف الألوف من قبلهم، والتي لا تزال يخرج منها صوت عويلهم، انطقي أيتها الحقيقة بحكمك الأخير!
إنني — أيتها الحقيقة — منذ الساعة سأكون كما كنت في الماضي عبدًا مخلصًا لك. سأنسى كل آلامي منتظرًا أمرك العظيم، سأصبر على همومي وأحزاني وألقاها بصدرٍ رحيب، سأكتم شكواي، وأعلل النفس بالفرج القريب، إذا رأيت الناس تبغضني وأعدائي تغيظني وأهل الظلم يكيدون لي سأعرض عن ظلمهم وغيظهم، سأهزأ بمكائدهم ومفاسدهم، سأضحك من خداعهم وشرورهم؛ لأنني لا أملَ لي إلا فيك، وأنت أعظم من يُؤْمَل فيه.
لن أشكو بعد اليوم وحدتي، لن أحزن بعد اليوم إذا بكيتُ منفردًا، لن أضجر من آلام الفقر والمرض والشقاء، بل ألقاها جميعها مسرورًا مُستبشرًا.
إنني — أيتها المحبوبة المتبرقِعة — صابر قانع، إذا التفتُّ حولي فلم أرَ أحدًا يؤنسني في وحشتي ويساعدني في كربي ويفرج همِّي، فلن أسأل بعد اليوم لماذا ليس لي في هذه الدنيا صديق؟ فأنت على بُعدك صديقتي، وأنت على تستُّرك وتقنُّعك محبوبتي التي سأخلص لها، بل أنت إلهتي ومعبودتي، أنت إيماني وديني، أنت قبلتي وكعبتي، أنت حياتي وموتي، أنت سعادتي وهنائي، أيتها الحقيقة، أنت الكل في الكل، أنت الوجود والعدم، أنت الخالدة منذ القدم.
أسعفيني وأسعديني أيتها الحقيقة، فإنني لا أزال صابرًا.