الليلة الخامسة عشرة
فلمَّا قرأت تلك الأناشيد زادت حيرتي وحزني، وقطعني الروح الحائر، فهو لا يزورني يُخفِّف بحديثه ما بنفسي، فاتَّخذت من الصبر درعًا إلى أن ضقتُ بالحيرة ذرعًا، ثم سمعتُ الروح يقول لي في نومي: «إني زائرك لآخِر مرة، ولكن لا تسألني أن أرفع عن بصيرتك نقاب الحيرة، فلو استطعتُه لغيري هَديتُ نفسي.» ثم وافاني الروح تحت جنح الظلام وفي يده المصباح الذي يهدي خطاه في عالَم الأرواح، فعلمتُ لأول وهلةٍ أنه لا يزال كما كان حائرًا، ولكنني الليلة لمحتُ انتهاك قوته وخُفوت صوته.
قلت له: «ماذا أوحى إليك ما كتبتَ في تلك الأناشيد الستة؟ إنَّ بعضها كالريح الصرصر العاتية تُغرق سفن الآمال، وبعضها كإعصار الصحراء تدفن العواطف، وبعضها كالسموم تُخمد قوى النفس، وبعضها كريح الشمال تُعيد الحياة إلى الروح.»
قال: «أوحاها إليَّ ظمئي إلى الوصول إلى الغرض الأسمى والمَثَل الأعلى (أيديال).»
قلت: «وما هما؟»
قال: «الغرض الأسمى: هو بلوغ الإنسانية أرقى مراتب الكمال، والمثَل الأعلى: سلوك الأفراد والجماعات سبيل الوصول إلى تلك المرتبة.»
قلت: «وما هي أرقى مراتب الكمال؟»
قال: «إنها لا تُعَدُّ، وأولها سعادة الإنسانية.»
قلت: «وماذا تقصد بالسعادة؟»
قال: «إنها درجات وأنواع.»
قلت: «وما أول درجاتها؟»
قال: «تقدير الحياة قدرَها، والاكتفاء بها دون سواها ما دُمنا على الأرض.»
قلت: «إذن هذا تعلق بالمادة لا يليق بالأرواح.»
قال: «أليست المادة أزلية؟ إنها نصف قوة العناية.»
قلت: «تركتَني في حيرة لا تنجلي، فقد نقمتَ على كل شيءٍ حتى جعلتني مثلك ناقمًا، وبكيتَ على كل حي حتى أبكيتَني، وشقيت بعقلك وحبك للوقوف على دقائق أسرار الوجود حتى أشقيتني.»
قال: «إنني رَويتُ لك أحاديث عن الشرق والغرب أُممًا وأفرادًا، وفاتحتُك فيما كان يجول بصدري من دواعي الحزن الإنساني، ونقلتُ إليك شعر الأرواح، وأبَحْتُ لك إذاعة ما دوَّنتُه وطويته، فأعطيتك صورة من نفسي، ولكن لديَّ أحاديث لا تنتهي، وفي قلبي عواطف لا أفرغ مدى الدهر من وصفها؛ لأنني لا أستطيع حصرها، ولكنني أشعر بأن دور الحيرة قد انتهى أو كاد ينتهي، فإنِ التقينا بعد الليلة كان لي معك حديثٌ آخَر لم تسمعه أُذن ولم يخطر على قلب بشر.»
قلت: «أمنصرِف عني أيها الروح العزيز بعد طول الود؟ أقاطعي بعد تلك الصِّلات؟»
قال: «صه، فلا فائدة في العويل، قد آنَ لي أن أطوف عوالِم أخرى، وأنتقل إلى دوائر غير التي أنا بها.»
قلت: «أي طريق أسلك؟ وعلى أي دربٍ أسير في مَهَامِه الحياة الأرضية؟»
قال: «انهض من عثرتِك أقالتك الحقيقة، ونفِّض عن نفسك، واعمل في الميدان الذي خُلِقْتَ للجهاد فيه إلى أن تفوز أو تُخْذَل.»
قلت: «وما هو هذا الميدان؟»
قال: «هو ميدان الحياة الإنسانية! إنَّ ما يُعْرَضُ لك من المسائل الأرضية لا يُحصى ولا يُحصر، فاصرِف قوَّتَك في حلها، وافعل من الخير ما استطعت، والتمس العمل فإنه درع تتقي به نصال الحياة.»
قلت: «وما غاية العمل على الأرض؟ ألم تقُل إننا جئنا إليها وسنذهب عنها اعتباطًا؟»
قال: «قد يكون ذلك، ولكن ألم تجدوا أنفسكم على هذا الكوكب؟ وإن لوجودكم غاية إنْ لم تقصدها القوى التي أوجدتكم فاخلقوها بأنفسكم، ألا تذكُر كلمة الفيلسوف العتيق الهازئ من الحياة والوجود التارك في صحيفة الدهر بسمةً أزلية أبلَغُ من كل قول قديم وجديد فولتير القائل: «إذا لم يكن لكم أرباب فاخلقوها»؟ كذلك إذا لم يكن لكم مثَل أعلى فاسعوا في إيجاده.»
قلت: «وأي مثَل أعلى بعدَ ما ذكرت؟»
قال: «المثل الأعلى هو البحث عن الحقيقة.»
قلت: «وما هي الحقيقة؟»
قال: «تسألني عن الحقيقة، وما أسهل السؤال وأصعب الجواب! وهل لو عرفتُها بقيتُ حائرًا؟! ولو كانت على أطراف الألسنة تُنْقَلُ من فمٍ إلى فم ما كان للحياة والجهاد والألم معنى، فهي اللُّغز الذي يسعى الكلُّ في حله، فمعظم الناس انصرفوا عن الغرض الأكبر، وألهتهم أغراض صغرى، وقليلون منهم يضربون في مَهَامِه الحيرة.»
قلت: «رأيتُك في بعض أناشيدك تقول: رأيتُ الحقيقة ووقفت على سِرِّ الوجود.»
قال الروح: «هي أمانٍ عذبة كنتُ أُمنِّي النفس بها، ولا يكون المرء أبعدَ عن الحقيقة منه يوم يتوهَّم معرفة كُنهها.»
قلت: «سمعتُك تقول حينًا: الحقيقة المُطلقة والحقيقة النسبية. فماذا عَنيت؟»
قال: «قصدتُ بالحقيقة المطلقة تلك التي وصفتُها، فقل هي الطبيعة، هي العناية، هي الوجود، هي الروح، هي المادة، بل قُل هي مجموع ما ذكرت، وهي من أمر ربي. أما الحقيقة النسبية فهي ملجأ فريق مِن الحُكماء، اخترعوها لتسلية نفوسهم وتعزيتها، يقولون: الحقيقة لا وجود لها، وإن وُجِدَتْ فلا سبيل للوصول إليها. وحياة الإنسان على الأرض لا تسع البحث لبلوغ الغرض الأسمى (أيديال)، فكلُّ ما رآه الإنسان حقًّا فهو حقٌّ ما دامت فيه راحة لنفسه وهُدًى لضميره.»
قلت: «وأي الحقيقتَين أنشد؟»
قال: «ليكن غرضُك الأسمى «أيديال» الحقيقة المُطلقة، واقتنع بالحقيقة النسبية ما دمتَ في سبيل الوصول إلى الأولى.»
قلت: «وما هي السعادة؟»
قال: «هي ضرب من ضروب المثَل الأعلى، هي غاية الأفراد والجماعات، ومعناها أن يتمتَّع الفرد أو الجماعة بالحياة؛ ولهذا شروط عرف الناس بعضها وغاب عنهم معظمها، وأولها أن يكون الفرد أو الجماعة بغير قيودٍ وضعها الغير للانتفاع بها، وهذا شرط أوَّلي مُطلق، وكل ما عداه ثانوي نسبي، ومن لا يحوزه ليس في عداد الأحياء ولا ينبغي الاعتداد به، بل ينبغي أن يبذُل في سبيل الحصول عليه كلَّ شيءٍ حتى الوجود الذاتي؛ لأن الوجود الذاتي لا قدْر له، ومثل من يعيش بدون هذا الشرط اكتفاءً بالحياة المادية كمثَل من يُفضِّل الحياة النباتية الدُّنيا على الحياة الروحانية العُليا.»
قلت: «هذا الشرط الأول عرفته، فما هو عماد السعادة؟»
قال: «الحبُّ والفضيلة.»
قلت: «سمعتُك تقول الحبُّ عبث وضرب من خيال الشعراء، والفضيلة لفظ موضوع.»
قال: «قصدتُ نوعًا واحدًا من الحب، وهو حبُّ المرأة، ولم أقصد المثَل الأعلى منه.
أما الفضيلة التي ذَممتُها فهي المعروفة لعهدكم في الأرض، وهي صفات تؤدي بصاحبها إلى القوة والتمتُّع، ولكن الفضيلة التي أريدها الآن إنما هي المثَل الأعلى من كل شيء، وقد يكون أصحابها أخملَكم ذكرًا، وأحطَّكم قدرًا، وأبعدَكم عن الجاه.»
قلت: «وما هو المثل الأعلى في الحب؟»
قال: «هو الحبُّ المُطلق العام الذي لا يدخل في دائرة المادة؛ كحبِّ الحق والطبيعة والإنسانية والوطن، وكلها أغراض سامية تنبعث منها صنوف الخير.»
قلت: «وما بالك تُحقِّر من شأن الحب المادي بعد أن ذكرتَ لي وجوب الاكتفاء بحياة الأرض؟»
قال: «حاشا أن يكون في القول تناقُض، إنما كل رأي له مجرًى في الفكر. الحب غايته السعادة، فلو صدر عنه الشقاء فليس هو الحبُّ المقصود، إنما هو مَيل مادي يفقد التوازن ويُتلِف النفس، ولكن الناس فهموا من الأشياء غير المقصود، فهم يُطلقون كلمة الحب «آمور» على عاطفة خادعة، فإن شعرتَ يومًا بتعذيب نفسك في سبيل حبِّك فاعلَم أنه ليس حُبًّا.»
قلت: «كيف ذلك والبذْل والألم والتعذيب لا تكون إلا في سبيل الحُبِّ الأعلى؟ ألم يَأْتِكَ حديث القديسين وأولياء الله والشهداء ممَّن عظُم قدرُهم بحبِّهم؟»
قال: «أجل، ولكن التعذيب الذي تذكر غير التعذيب الذي أعني، وليس قولي موجَّهًا لصاحب الذهن الخالي.»
قلت: «وما رأيك في العالم؟»
قال: «مجموعة أُمَم ذات ألوان وأطوار شتَّى.»
قلت: «بمَ التفاضُل بينها؟»
قال: «بالأخلاق.»
قلت: «وما هي الأخلاق التي تعني؟»
قال: «هي خلاصة حياة الأمَّة وصورة من روحها، وهي لها بمثابة سلسلة الظهر للحيوان، وتكون حياة الأُمَم قوةً وضعفًا، اعتدالًا وميلًا، عزًّا وذلًّا، سعادة وشقاء؛ كحال خُلُقها. فما بادت وما ذلَّت أمَّةٌ ذات خُلُق قويم، كذلك ما عاشت وما عزَّت أمَّةٌ لا خلاقَ لها. إن أكبر الأمم جاهًا وأعظمها صولةً لا قوام لها بدون خلُق، وأصغرها من ذوات الخلق أطولها عمرًا وأرفعها مجدًا.»
قلت: «وما هي مفصلات الأخلاق؟»
قال: «انظر في أُمَّتِك؛ فإن كانت ضعيفة ذليلة فاحكُم بنقص خلُقها، وإن كانت قويةً عزيزة فهي من ذوات الخلق.»
قلت: «وما رأيك في كبار الرجال؟»
قال: «مَن لا يستفزُّهم نفع الذات، ولا يقعد بهم شرٌّ يخشونه في أنفسهم.»
قلت: «إني سأنشُر كل ما حدَّثتني به على الملأ.»
قال: «أتعلَم ما ينالك من وراء ذلك؟»
قلت: «نعم، إنَّ الناس تَشكُرني إذا نشرتُ رأيًا صائبًا، وتَعذُرني إذا أذعتُ خطأ.»
قال: «إنك إن قلتَ ما تعتقد عرَّضتَ نفسك للَّوم؛ لأنه هيهات أن تجد من الناس من يرتضي رأيك إذا لم يكن رأيه، وإن الذين يُقلدون الأغبياء والمُتنطِّعين أكثر منهم غباوةً وتنطعًا؛ لأن الغبيَّ والمُتنطِّع له فضيلة واحدة وهي حُسن النية. أما إذا قلتَ ما لا تعتقد بقيتَ في حربٍ عوان مع نفسك، وأفظِعْ بها من حربٍ تبدِّد القوى وتُفني نشاط النفس على غير جدوى! وأن يكون المرء في سِلمٍ مع نفسه لأفضل له من أن يكون في حربٍ معها وفي سِلمٍ مع الناس أجمعين.»
ثم سمعت دويًّا، وضعُف ضوء المصباح، فقلت: أيها الروح العزيز. فلم أسمع جوابًا.
فصرختُ من أعماق قلبي: أيها الروح الحائر. فسمعتُ صوتًا قصيًّا كأنه صوت هاتف يقول: «قل: الروح المُهتدي. ألم تعلَمْ أنها ليلة الوداع الأول؟!»