الليلة الثالثة
زارني الروح الحائر وأنا أبحث في علة سقوط الشرق ونهوض الغرب، فقال لي: «أراك مُطرقًا مفكرًا كأنه موكول إليك تدبير الأُمم ولمُّ شعث الشعوب.» قلت: «إنني أفكر في أسباب سقوطنا ونهوض غيرنا من الأمم.» قال: «إن الخطب سهل، وإن من لا يرى عِلل ذلك السقوط رأي العيان فهو لا شك أعمه.» قلت: «إنني أرى بعض الأسباب ويغيب عني بعضها.» قال: «إن كنتَ ترى أهمَّها فهذا أفضل من حال من يخفى عليه كبير الأمور وتبدو له صغائرها.» قلت: «وأي الأسباب أكبر؟» قال: «ظننتُك تعرف.» قلت: «أظنه ضعفًا في وقت أصبحت القوة فيه عماد الأمم.» قال: «كلَّا.» قلت: «أظنه جهلنا في عهد العِلم والنور.» قال: «كلَّا.» قلت: «إذن ماذا؟» قال: «إنه بُغض العظماء.» قلت: «وكيف ذلك؟»
قال: إنَّ بُغض العظماء في الشرق أكبر المصائب التي أصابتنا، ولا نزال نعمل بها على تدمير البقية الباقية من حياتنا القومية، فما نبغ في هذه الأمة نابغ إلا جرَّدنا في وجهه أسياف الحِقد والحسد وما تركناه إلا مضرجًا بدمائه فنعود على نفوسنا باللائمة ونقول: لقد كان فينا عَلمًا في رأسه نار نهتدي بهديه ونسترشد برشده.
وهذه بلا ريب نقيصة من النقائص اللاصقة بالأمم المُنحطَّة، وهي أثر من آثار الهمجية الأولى، فقد كان أجدادنا سكان الأحراش وأبناء الأدغال والآجام أهل العصر الحجري يخشون أن ينبُت فيهم فرد نباتًا حسنًا فيقوى عليهم وتُسلِّطه قوَّته في أعناقهم أو يغتال مالهم وما لديهم؛ إرضاءً لنفسه الضخمة وإرادته القوية وشهوته التي لا تبرُد نارها، وهذا كذلك أثر من آثار تنازُع البقاء بين طبقات الحيوان السُّفلى والعُليا؛ لذا يروي الحكماء خرافةَ الوحوش الضئيلة التي تآمرَت فيما بينها على الأسد وهو ملِكها وأشدُّها بأسًا وأقواها بطشًا؛ لتفتك به وتستريح من شرِّه، ولكن لا تلبث تلك الحيوانات أن تقتُل سيِّدَها ومولاها ومرجعها في أمورها ومعتمدها في ضِيقها ومُنقذها مما يحيق بها، وهو الذي خصَّته الطبيعة بقوة فوق قوتها وعزيمة أشد من عزيمتها حتى يقوم منها من يَخلُفه في بأسه وشدَّته وقوة بطشه وشراسته، ولا يفرغ الثعلب وابن آوى من دسِّ الدسيسة حتى يشرعا في تدبير مؤامرة ثانية للخلاص من المولى الجديد.
هذه قصة من أساطير الأوَّلين وضعَها الحكماء والمُرشدون؛ لتكون فيها عظة لقوم يعقلون، وها نحن نرى أمامنا قوانين الطبيعة وسنتها دائرة على محور الانتظام وسائرة على خط مستقيم، ونرى تلك القوانين العادلة في أعمالنا نحن البشر كما نرى نور الشمس وضوء القمر، ولكن قلَّ فينا من اتَّعظ واعتبر.
هذه صحف تاريخنا البيضاء، قلِّبها كيف شِئت ترَ من آثار حقدنا على عظمائنا وغيظنا من النابغين فينا، وحسدنا لكل ذي نعمة لم تهبها لنا الطبيعة؛ ما لا تحتاج بعدَه إلى برهان على إثبات قُرب عهدنا بالحياة الوحشية وتمام المشابهة بيننا وبين العجماوات.
وقد علَّل علماء الأخلاق هذه النقيصة بأنها داء من أدواء النفوس الصغيرة التي لا ترى لذواتها فضيلة من الفضائل، وتأبى أن ينفرد غيرها بالكمال، وقرَّر هؤلاء العلماء أن النفس الكبيرة تُسَرُّ بالنفس التي تُشبهها وتُماثلها وتشدُّ أزرها وتناصرها، ولا تتسرَّب إليها الغيرة ولا يأتيها الحقد من بين يدَيها أو خلفها.
وهذا التعليل واضح، فالنور لا ينقص النور، والقوة لا تنقص القوة، ولكن الظُّلمة ضَرَّة الضياء، والضعفاء أعداء الأقوياء، ولكن تلك النفوس الصغيرة الضئيلة لو تأمَّلتْ قليلًا ترجع عن غيِّها لساعتها، فمهما اختفى الحق لا بدَّ من ظهور نوره.
أيتها النفوس الصغيرة، ولا أحقرك ولا ألومك على صِغرك، فقد أرادت لك الطبيعة أن تكوني كما أنت، وهيَّأت لك شروطًا وأحوالًا وبيئاتٍ وأشخاصًا وأعمالًا، وبعثت إليك بعوامل ظاهرة وأخرى خفية، فبرزتِ للعالم كما أنت، فلماذا يُحزنك الأمر وهو قضاء الطبيعة وقدرُها؟ لو كنتِ تحملين أكثر ممَّا أنت حاملة لوكلَتْ إليك الطبيعة أحمالًا جهد طاقتك، ولكن لكلِّ وعاءٍ ما يسَع، وليس فيك لِما في غيرك مُتَّسع.
عجبًا! كيف يجوز للشعلة الضئيلة أن تحسد الشمس المُشرقة على نورها؟ وكيف يجوز للأرض الدنيئة أن تُطاول السماء الرفيعة؟ بل كيف يحقُّ للأصداف أن تحقِد على الجواهر وتُنكر عليها بهاءها؟!
إذا انفردَتِ الشمس بإضاءة الأرض على سموِّها وزهاء نورها خسِر الناس رُبع أعمارهم وهي الليالي التي يستضيئون فيها بالقمر والكواكب والأنوار المُبتدعة، وإذا اكتفَينا بالجواهر احتاج غيرُنا إلى الأصداف، ولا يمكن للفرد مهما كان عظيمًا وقويًّا أن ينوب عن الكل.
فيا أيتها النفوس الصغيرة، إننا في حاجة إليك، إنَّا نطلبك كما نطلُب النفوس الكبيرة، ولكن الطبيعة العادلة تأبى أن تستوي أنتِ وغيركِ من النفوس الكبيرة؛ لأن لكل نفسٍ عنصرًا خاصًّا بها، وعنصرك أقلُّ من عنصرها، وقدرُك أضعفُ من قدرِها.
أيتها النفوس الصغيرة، اقنعي بعَيشك وعملك، وخلِّ عنك أمرَ غيرك. إنَّ الفلك لا يدور بالأقمار والكواكب السيارة، إنما فيه من النجوم ما لا يبلُغ قدْرَ ذرة، ولكن تضيء تلك الذرة بُقعة من الأرض لا ينفُذ إليها نور الشمس ولا ضوء القمر، كذلك قد تقوم نفسٌ صغيرة بما لا تستطيعه نفس كبيرة.
إذا قام عظيم بإصلاح أمَّةٍ وهدي شعبٍ فقد يقوم غيره ممن لم يُقسَم لهم نصيب كنصيبه بسدِّ حاجة عيلةٍ يعُولها، ولو أرادت الشعرى اليمانية أو المريخ أو الزهرة أن تنال منال الشمس وسارت على دربها غيرها من الكواكب اختلَّ نظام الفلَك واعتلَّت هيئة الأجرام وزال ما نراه من القبة الزرقاء من الإبداع والإحكام، كذلك إذا أرادت نفس صغيرة أن تنال منالًا غير منالها ونسَج غيرها على منوالها فسدَ نظام الحياة وصار الأمر فوضى لا قوام له ولا قائمة.
يقول صغار العقول وضعاف الأحلام: هذا العظيم الكبير يَستصغِرنا ويحتقِر شأننا ويشمخ بأنفه علينا ويدَّعي بأنه ليس منا، ولو كان مُتواضعًا حملناه على الأكفِّ والأعناق.
نقول: كذبتُم وأنتم على أنفسكم شاهدون، لو كان مُتواضعًا وطئتموه بأقدامكم وأخذتم تواضُعَه حجةً عليه لا له، وكم من مُتواضع بيننا يُؤْخَذُ برجلِه ويجرُّ، وهو جدير بأن يُؤْخَذ بيدِه ويُبَر! أما كبرياؤه وشموخه فدعوهما، ودعوه فهو ليس منكم، دعوه إنَّ في نفسه نورًا ليس في نفوسكم، دعوه إنَّ في فؤاده نارًا لا تُشعل أفئدتكم، دعوه إن في روحه من الكهرباء ما لا تُطيقه نفوسكم، ألا يكفيكم أنه يعيش بينكم في ذلك العالَم المملوء بالمعائب والأقذار؟! ألا يكفيكم أنه يُرشدكم ويهديكم؟ كيف تُكلفون النفس القوية أن تلتئم مع الجسد الضعيف؟! بل كيف تريدون من الطبيعة أكثر من أن تجمع بين النار والماء في وعاء.
يا أُمَم الشرق، تُناديكِ نفس مُوجَعة، ويستغيث بك روح حائر، فاسمعي وَعِي، إنَّ هلاكك في تدابُرك وتباغُضك وتنافُرك. يا أُمَم الشرق، كفاك ما أنت فيه من الوهن وما يتوعدك من ضروب الدمار والهلاك، إنك كالحية سُمُّها كامن في بدنها ولا يؤذيها ما دامت لا تنفُثه فيه. أيتها الأُمَم، مَجِّدِي عظماءك دون السِّوَى، وناصري الأقوياء ينصروك.
يا أمم الشرق، ما مات فيك كبير إلا وراءه صحيفة سوَّدتها نقائصك تدلُّ على قِصر نظرك وضيق نطاق عقلك، كم من حكيم ذاق حتفه عقابًا له على حب العدل والحق! وكم من عظيم أراد أن يُنير لك غياهِب الدهور القادمة، فأطفأت شُعلته قبل أن يُضيء لك محجَّتك ويهديك سواء السبيل!
يا أُمَم الشرق، إن الطبيعة تعفو وتغفر، ولكن الحليم شديد الانتقام، ومن عفا اليوم عاقب غدًا، ومن غفر بالأمس ينتقِم اليوم.
يا أُمَم الشرق، انظُري إلى الأُمَم التي ورثت مجدَك وغلبتك على أمرك وداستك تحت أقدامها وجلست منك مجلس السيد من العبد والظالم من المظلوم؛ إن تلك الأمم حلَّت لغز الحياة، وسبَرَت غور الطبيعة، وعرفت كُنه المسائل التي تقفين أمامها ذاهلةً حائرة. إن تلك الأمم تُبجِّل عظماءها وتمجدهم وتتَّخِذ منهم هُداةً ومرشدين لا تَردُّ لهم قولًا ولا رأيًا.
فيا أُمَم الشرق، إن شئتِ أن تنالي منالها وتبلغي مجدها، أو تستردي مجدك الضائع وتُقيمي ركن عزك المُنقض؛ فاهدُمي معابد البُهتان، وارفعي لكل عظيمٍ عمادًا، وأقيمي لكل كبيرٍ تمثالًا يكون موضع السجدات.
يا أمم الشرق، هذه كلمة أقولها ولا أزيد عليها، قد لا تصِل إلى آذانك، بل قد لا تستأذن على مسامع أُمتي التي أنتسب إليها وأبناء وطني الذين أنتمي إليهم، فإذا لم تكن نصيحة تُسْمَع وتُقْبَل ويُعْمَل بها فلتكن نفثة مَصدورٍ تُفرِّج الكرب وآهة محزونٍ تُقلل من حزن النفس والقلب.
ولمَّا أن فرغ الروح الحائر من هذا القول أخذتْه هزَّة فاخلتج المصباح الذي في يده، فقال لي وهو يختفي عني في الأثير المُحيط به: موعدنا الليلة الرابعة.