الليلة الرابعة
كنتُ في حيرة من الحياة أُناجي نفسي تارةً وأعقُّها طورًا، وإذا بي أرى شعاع مصباح الروح الحائر، فقلت: إليَّ أيها الروح، فإنك على حيرتك أكثر منِّي هُدًى، إنني أسمع في هذه الأيام قولهم: «هذا هو الذوق الشائع، وذاك هو الرأي العام.» ولستُ أفهم لهذا معنًى.
قال الروح الحائر: «إنني إذا ذكرتُ بعض حوادث حياتي الأرضية وما كنتُ فيه من القيود المرذولة التي اقتضتها العيشة المادية تنفَّستُ الصعداء وحمدت الله على الخلاص من هذا البلاء، وإنني أذكُر ما قاسيتُه من البشر وأنا في الجسم الدنيء البالي كما يذكُر المُتيقظ حلمًا مزعجًا، ولكن هناك بعض الشئون فطنتُ لها وتجلَّت عليَّ الحقائق خلالها، فسعدتُ بها وأنا في الحياة الدنيا، فقد كُشِفَ لي يومًا عن حقيقة غرور الناس أو بدعة الرأي العام.» قلت: «حدِّثني فلعلَّني أهتدي بقولك.»
قال: من عجائب الحياة الأرضية ومن غرائب خلائق البشَر أن نصف العالَم يعيش مُتنكرًا والنصف الآخر يعيش مخدوعًا، فلا النصف الأول يخلع قناع التنكُّر، ولا النصف الآخر يستشفُّ ما اختفى وراءه من الحقائق المُخالفة للظواهر، وليس هذا راجعًا إلى حذق البعض وغباوة البعض الآخر، إنما الواقع هو أن الكل قد بلغوا النهاية من البلاهة والغاية القصوى من الغفلة. ولا ريب في أنه يصعُب التسليم بصِدق هذه القضية لأول وهلةٍ كما أنه يصعب عليَّ أن أدوِّنها؛ لأنني لستُ إلا بعض البشر، ولكنني ما دوَّنتها إلا بعد أن تحقَّقتُها، وما تحقَّقتُها إلا بعد التأمُّل في حالي وحال غيري ممن رأيتهم وخبَرْتهم، فكنت إذا أردت أن أحكُم على نفسي في شيءٍ من الأشياء اندفعتُ أفعل ما أريد بلا حساب، ثم جرَّدتُ من نفسي شخصًا يحكم على ما اكتسبتُ وكنت أبدًا إذا سمعتُ حُكم نفسي على نفسي أو حكم نفسي وهي في صحوِها عليها وهي في سُكرها عُدتُ عليها باللائمة، وما أَعدُّ لها من الحسنات إلا النزر اليسير، وقد أكون فيما عددتُ منها مخدوعًا مغرورًا، وكثيرًا ما كنتُ إذا سمعتُ حكم نفسي على نفسي أضحك منها هازئًا بها وبغيرها من النفوس، و«شر البلية ما يُضحك.»
وقد بقيت هذه القضية كامنة تجول في صدري ولا أستطيع أن أخرجها؛ لعجزي عن التعبير عنها حتى اختمرت، ثم حدث المرةَ بعد المرة ما هاجها وهي ناضجة، ففلتت مني قبل أن أعوقها، فتركتها تخرج للناس.
أما وقد مهَّدت هذا التمهيد؛ ليسهل عليك فَهم ما أريد، فها أنا أشرع في التفصيل:
كنت مرة في الحياة الأرضية في مَحفل حافل بكثيرين ممن يُسمُّون أنفسهم أصحاب السعادة والعزة ويصفونها بالعِلم والفضل والذكاء، فإذا دعاهم داعٍ بغيرها أو أغفلها غضُّوا عنه الطرف وعدوا فِعله إهانة لَحِقتهم ومذلة أصابتهم، كنتُ بين هؤلاء غريبًا عنهم، لا لأنني لا أعرفهم، إنما لأنني لستُ من طغمَتِهم؛ ولذا كنتُ خارجًا عن دائرتهم، لا يخدعني ما يخدعهم، ولا يسرُّني ما يسرُّهم، ولا يطيب لي ما يطيب لهم، فاستطعت أن أحكم عليهم حكمًا إن لم يكن العدل بعَينه فهو أقرب الأحكام إليه.
هؤلاء القوم دعاهم أحدهم ليخطب فيهم فلبَّوا دعوته، وفي كل قلبٍ من قلوبهم ما يشغله، فبعضهم جاء ليلقى صاحبًا له وفاءً بوعدٍ سابق، وبعضهم جاء ليُرِيَ الناس ثوبًا جديدًا، وبعضهم جاء ليقتل الوقت فرارًا من الضجر، والبعض جاء ليُقال عنه إنه يُدعى إلى المحافل ويفهم ما يقوله العُلماء، أما الرغبة في سماع ما يُقال فقد لا تتعدَّى بعض أفراد قلائل.
دخلتُ مع الداخلين، وجلست مع الجالسين، وأصغيتُ إصغاء الحاضرين؛ فإذا الخطيب يقول ما لا يعي، وإذا نحن ندَّعي فهم ما لا نفهم.
كان الخطيب عالمًا من العلماء، مشهورًا بالفضل، وقد جاء الكل طمعًا في شُهرته واعتمادًا على صِيته، فوقف يخطُب وهو مُمتلئ غرورًا بنفسه وإعجابًا بفصاحته وطلاقة لسانه وإعجاز بيانه، ولكن السامعين لم يجدوا منه ما كانوا ينتظرون، ولكنه وجد منهم الإصغاء والسكون، فاندفع يُصدِّعنا بركاكاته، ويجلد مَسامعنا بتُرَّهاته، وكلنا شاعر بقلَّةِ عقله بعد أن ظهرت حقيقة عِلمه وفضله، ولكننا — وا أسفي — عاجزون عن نصحه.
كنت أشعُر بالتملمُل ذات اليمين، وأسمع ألفاظ التأفُّف والتضجُّر ذات الشمال، وتقرَع أذني كلمات الندَم على ذهاب الوقت هباءً، فأردتُ أن أجسَّ نبض الحاضرين؛ لأتثبَّت من تلك القضية، فسألت جاري: أفاهِم أنت ما يقول؟ فقال: كلَّا، ولكنَّني متضجِّر. فمِلتُ إلى غيره وقلت له: أيلذُّ لك سماع تلك الخطبة؟ فقال لي: إنَّ ضرب السياط أحبُّ إليَّ منها. فنظرت إلى ثالثٍ وكنت أعرف فيه ما نُسمِّيه بالحياء، وسألته عن فصاحة الخطيب ومقدار عِلمه؛ فابتسم بسمةً مُبهمة.
فدهشتُ لخلوِّ هذا الجمع كله من رجلٍ كريم النفس قوي القلب والإرادة ينوب عن الحاضرين في التعبير عمَّا يجُول في خواطرهم، بل كان الكل جالسين صامتين كأنهم يخشون العقاب. فمَن المَلوم في مثل هذا المحفل العجيب؟ أَيُلَامُ الخطيب وقد امتلأ غرورًا بنفسه من ثناء الناس عليه ثناءً كاذبًا؟ أم نلوم الناس وكلهم خادع مخدوع يُوقع البعض بالبعض سعيًا وراء منفعةٍ أو جُبنًا وخوفًا من أن يُوصَموا بضعف العقل والعجز عن تقدير الفضل وذويه؟
إن ذلك الحادث الصغير أساس كلِّ أمرٍ كبير؛ لأن ما يحدُث في تلك الحفلة الصغيرة بين هؤلاء «الفضلاء الأذكياء، والعلماء النجباء» يحدُث في كل مكان، وما يصدُق على هذه الأمة يصدُق على غيرها من الأمم الراقية، وقد تكون الشعوب المنحطَّة أكثر حبًّا للحرية وأبعدَ عن قيود التقاليد الاجتماعية من غيرها، فهي من هذه الوجهة أفضل من بلاد العِلم والمدنية.
أجل، ما يصدُق على هذا الخطيب ومن التفُّوا حوله يصدُق على الكبراء، فليس الكبير إلا فردًا ساقت له المُصادفات مجدًا وألبسته صروف الدهر حللًا وقلَّدته طوارئ الحدثان مقاليد البطش، وقد رضع الملَق مع اللبن ونشأ في قوم يُعظمونه لا لفضيلةٍ فيه، ويَهابونه لا لبطشٍ يتَّقونه، وعاش في وسَطٍ كلُّ من فيه عبيده وخدَمُه إذا قال فعل وإذا أمر أتته الطاعة مُنقادة فهو لا يرى نفسه عبدًا إلَّا لشهوته، والضعفاء والصغار من حوله لا يعلمون من أمره شيئًا سوى أنه الفعَّال لما يريد.
قد يكون من طبعه الخوف من الفيء والفزع من لا شيء، كما هي حال هؤلاء الذين لم يعرفوا من الشدائد إلا وصفَها، ولم يذوقوا من الحياة إلا قصفها، إنما ورثوا سوء الخلق وشراسة الطبع عن آبائهم وأجدادهم الذين نشئوا منشأهم وعاشوا عيشهم، وقد تفيد الحماقة حيث لا عِلم ولا معرفة فيظنُّها الأغبياء عزمًا ثابتًا وإرادة قوية لا تزعزعهما العواصِف ولا تقلقهما رياح الدهر القواصف. حتى إنَّ الأغبياء يَقصُّون عن غنيٍّ كبير من نوادر طفولته أن شيخًا دعاه يومًا وهو طفل بلقبٍ من ألقاب الدلال فالتفتَ الطفل إليه مُغضبًا وقال: «لا تدعُني بما تدعوني به أمي.» ولو كانت هذه الحادثة لصبيٍّ من أولاد الفقراء لعُدَّتْ منه قِحة وخروجًا عن حدِّ الأدب والحياء، ولكنها عن غنيٍّ كبير؛ لذا هي موضع الإعجاب؛ لأن شخصه مَوضع الابتهال.
وقد يكون المملقون ضجِرين وهم يُسبِّحون بحمده ويتحمَّلون ضَيمه وشرَّه وهم ناقمون ساخطون، فإذا صنع بهم ما صنع وبلغ منهم الغيظ ونال منهم الغضب وقام أحدُهم يشكوه إلى نفسه أو يُنبِّههم من غفلتهم بعد طول خنوعِهم؛ رُمي بالجنون. وعلى هذه القضية قضية الخوف من التصريح بالحق؛ لحفظ بعض المنافع إلى حين، أو طمعًا في مَغنم ضئيل، أو تصديقٍ لما يقول الغير، واعتمادًا على أوهامه الواهية؛ بنى الناس بدعةَ الرأي العام، فهم يقولون: الرأي العام إرادة لا تُرَد، وقوة لا تُصَدُّ، وبطش ليس له حد. ويقولون: صوت الخلق صوت الحق، وإن العناية تنطق على ألسنة البشر … إلى غير ذلك من الأقاويل الموضوعة. والواقع غير ما يقولون، وهم واثقون بأنهم منافقون مراءون ومُدَّعون كاذِبون، أليس الرأي العام اندفاع فئة كبيرة من الناس وراء قول خطيب بارع أو كاتب بليغ؟ وقد يكون هذا الخطيب أو ذاك الكاتب شريرًا سيئ المقاصد قليل الخبرة عاشقًا للشهرة والرئاسة «وكلهم ذلك الرجل.» ولكن الناس أو الرأي العام لا يعرفون عنه إلا ما يقول، ولا يرَون منه إلا سطورًا سوداء في ورقةٍ بيضاء أو هيئة حسَنة وخلقًا كريمًا يتصنَّعه ليخدع الناس ويجذبهم إليه، ولكن ماذا تكون حال هذا الرأي العام لو فُتِحَتْ صحائف قلوب قادتِهِ وقُرئت على رءوس الأشهاد؟ إن الناس لِضَعفهم لا رَيب يقولون: هذا افتيات وافتراء، وما قادتْنا إلا ملائكة من السماء، وتلك سنة الطبيعة في البشر، ولن تجد تبديلًا. طُبِعُوا على الذل فهم الخاسرون.
على ذلك الأساس المتين — أساس الخوف من التصريح بالحق والجُبن الموروث — بنى أبطال التاريخ مجدَهم الخالد وأسَّسوا مفاخِرَهم الشامخة، وقد سُئِلَ بعضهم: كيف يُرهِب القلوب ويُرعِب الأفئدة؟ وكيف يغلِب أعداءه ويقهر أضداده ويُذلُّ الأعزاء ويخضع الأقوياء؟ فقال: عرفتُ سرًّا لم يعرفه إلا من بلغ مَبلغي أو سوف يبلُغ. فقيل: وما هذا السر؟ قال: «أخدع الناس كُلًّا بما خُلِقَ له، وأستعين بالبعض على البعض؛ فيكون الكل لي ظهيرًا.»