الليلة الخامسة
دنا الروح الحائر من مضجعي وهزَّني فنهضت، قال: «لقد اكتشفتُ اليوم أمرًا غريبًا؛ إن بين الأرواح أرواحًا مجنونة كما هي الحال بين البشر.» قلت: «كيف ذلك؟ أليس الجنون عارضًا من عوارض الحياة الأرضية؟» قال: «كلَّا، إنه كذلك يعتري بعض الأرواح التائهة التي لم تستقر بعدُ على حال، فقد رأيتُ اليوم روحًا مجنونًا يهيم على وجهه في الفضاء، وهذا الرُّوح المسكين لا يهدأ له خاطر ولا يسكُن إلى مقر، فلمَّا رآني قرُب مني وقال لي: «أنت الروح الحائر العاقل، وأنا الروح الحائر المجنون.» قلت: «وكيف ذلك؟» قال: «إنني طريد الأرض والسماء؛ لأنني قلتُ يومًا ما أعتقد.» قلت: «ماذا قلت؟» قال: «خلوت يومًا بصديقٍ لي وأسررتُ له رأيي.» قلت: «وما هو هذا الرأي؟»
قال: «إنني سمعتُه يذكُر الأخلاق والآداب والفضائل وغير ذلك من الأحاديث المُتفق عليها.» فقلت له: آداب وأخلاق وفضائل! ألا تزال تعتقِد بوجود هذه الأحاديث، اسمع، إنني أقول لك كلمةً واحدة لم أقُلها لأحدٍ سواك من قبل، وفي هذه الكلمة السرُّ الأكبر، بل هي حلُّ اللغز الذي تقِف أمامه صاغرًا حائرًا.
إنَّ كل ما ذكرتُ لك أكاذيب مموَّهة وأضاليل مُتفق عليها، نعم، أكاذيب مموهة وأضاليل متفق عليها، وبعبارة أخرى هي سيئة من سيئات المكر البشري وحيلة من حِيَل الإنسان اختلقَها؛ ليسود على أخيه وليتحكَّم بها في عُنقه، أتعرِف قصة السندباد البحري؟ أتعرف كيف أنه لَقي في إحدى الجزُر رجلًا عجيبًا غرَّر به وخدَعَه حتى تمكَّن منه وركب كتفَيه، وما زال ذلك الرجل يُسخِّر السندباد ويحرمه لذَّة القعود ولا يُذيقه طعم الرقاد؛ إذا غفا أنهضه، وإذا توانى ركضه، حتى فطن السندباد إلى حِيلته وحاول الخلاص منه، فلم يتأتَّ له إلا بأنْ أسكرَه، فلمَّا لعبت الخمر برأس العلقة أخلى سبيل أسيره، ولو لم يفطن السندباد بقِيَ طول عمره في أسره!
إنَّ مثَل الهيئة الاجتماعية في كل زمان ومكان كمثَل السندباد والمُدَّعون أنهم أنصار الحق وأعداء الباطل وأبطال المواقع وحُكماء الأمم وأصحاب الملايين؛ هم خُلفاء ذلك الرجل العجيب الذي ركب أكتاف السندباد المِسكين، نحن — يا صاحبي — فريسة تلك الوحوش المُفترسة، نحن عبيدها وأسراها، ونحن مصدر خيرها وثروتها، نحن مصدر بطشِها وقوَّتها، لا تدهش ولا تذعر! إن كنتَ اكتفيتَ بقراءة الكتُب وسرَّك مرأى الظواهر فإنك لا تستطيع معي صبرًا، بل أُضطرُّ لأن أستميحك عذرًا وأقول لك: لقد أخطأتُ وسبقني اللسان إلى القول فلم أفقه معنى ما قلتُ وكفى. وإن كنتَ قرأتَ الناس وعلمتَ ما خفِيَ من أمورهم فأنا أسألك أمرًا واحدًا، ارجع بنفسك إلى الماضي وسلْها عمَّن عاشرتَهم من أهلك وأصحابك ورفقك وأحبابك وقل لي أيهم لم يسْعَ إلى غايةٍ تُهمه وغرض يريده؟ بل أيهم بذل نفسه أو ماله أو شرَفَه ليُنقذ غيره ما لم يكن له وراء ذلك البذْل أمل يودُّ تحقيقه؟ بل أيهم ليس له سِرٌّ يكتمُه وخبر يُخفيه؟ أيهم لم يخدع الناس؟ أيهم لم يخدع نفسه؟ أيهم أذعن إلى الحق إلَّا مُرغمًا مُضطرًّا؟ أيهم لم يُغير ما بنفسه سرًّا وجهرًا؟ أيهم صدَق في القول وأخلص في العمل واعتقد ولم يأكله الناس لحماقته وجهله؟ وأيهم لم يُنْجِه الكذب من اللَّوم ولم يُنقذه الرياء من مخالب الفقر؟ أيهم أشبع جائعًا إلَّا طمعًا في دارٍ تجري من تحتها الأنهار أو خشيةَ أن تلحَقَهُ الفاقة في آخِر النهار؟ أيهم حقن دمًا يرى في سفكِه خيرًا له؟ وأيهم صان سرًّا يجد في كتمِهِ ضرًّا أو حرص على شرَف أمن في ثلمِه إراقة الدماء؟ إنَّ هناك لا رَيب نفرًا قليلين تُحاجُّني بهم وتستند في تفنيد قولي عليهم، ولكن كل ما أقوله عن هذا النفر هو أنك لم تعرِف دخائلهم، ولم تسعدك المُصادفات برفع الستار عنها.
تقولون: شرف وفضيلة … فما هو ذلك الشرَف سوى الألقاب الفارغة وتلك المظاهر الباطلة، أرأيت رجلًا كاملًا لا ينطق إلا بميزان ولا يفُوه بفُحش القول كأنَّ على رأسه ملَكَين كريمَين يكتُبان؟ أرأيته كيف يأنف إذا اغتبتَ لديه عدوَّه؟ أسمعته كيف يأبى عليك أن تمدحه في وجهه؟ إنه — يا صاحبي — مُمثِّل حاذق أمكنه أن يستُر حقيقة شخصه بغشاءٍ من الرياء والنفاق، إنه ادَّعى الفضيلة، ولعمري ما وضع الواضعون اسمًا بغير مُسمَّى أغرب ولا أعجب من هذا الاسم، فإنه يتضمَّن كل شيء ولا يدلُّ على شيء، وليس ذلك بعجيب، أرأيت تلك الفتاة التي احمرَّ وجهها خجلًا إذا نطقتَ أمامها باسم الحب؟ أرأيتها وهي بين ذراعي حبيبها بعد ذلك ببُرهةٍ تبثُّه لواعج الشوق وتتلو عليه آيات الغرام؟ هذه يا صاحبي هي الفضيلة، هذا هو الشرَف، لكن كما يفسرها الرجل العجيب الذي ركِب كتفَي السندباد لا كما يفسرها السندباد بذاته.
ولكن لماذا نلوم الناس ونعتب عليهم؟ أليسوا بشرًا؟ أليسوا قطيعًا من الحيوان كان يدبُّ منذ قرنٍ في الأدغال والأحراش؟ ولكن لماذا نتظاهر بما لا نُبطن؟ نظام الهيئة الاجتماعية يقضي بذلك، وما هو نظام تلك الهيئات الاجتماعية سوى قواعد وضعَها الإنسان للإنسان وصَيَّرَه بها أسيرًا على مدى الدهر والأزمان ضعيف الحَول والطَّول حقير الرأي والعقل. إن هذه الحيوانات المُستترة وراء الحلل الفاخرة والحِلى الغالية سئمتْ ذلك الاستتار وأصبحت تُبجِّل الصادق الأمين والوفي الحر؛ لأن صاحب تلك الصفات نادر نُدور الكبريت الأحمر في ذلك العالَم الطويل العريض، فلماذا لا نخلع كلنا مرةً واحدة رداء الرياء ونُطلِّق النفاق طلقةً بائنة وننسى الماضي، ونسير في طريقنا كما يسير إخوانُنا في الأجمات والغابات بلا كذبٍ ولا خداع ولا نميمة وبلا الألفاظ الخلابة الباطلة؟!
لا أريد أن أقلب نظام العالَم أو أُعطل سير الفلك، بل يُخَيَّل لي أن الشيطان يخجل إذا ظننتَه ملكًا طاهرًا، فكيف لا نخجل نحن ممَّن يُجِلُّنا ويُعظمنا ويُكرمنا ويسجد أمامنا ويبذل نفسه مرضاةً لنا؟! إذا كان لنا ضمير فمتى يؤنِّبنا؟ وإن كان هناك جزاء فمتى يكون؟ وإذا كانت الإنسانية تسير سيرًا حثيثًا نحو الكمال فمتى يكون الوصول إن كانوا صادِقين؟ وإن كنَّا نسير سيرًا سريعًا نحو الدمار فمتى يكون البلوغ إن كنَّا بالغين؟!»
قال الروح الحائر: فلمَّا سمعتُ هذا القول قلتُ له: «لا شكَّ أنك أيها الروح مجنون، أتظنُّ هذه الأقوال حقًّا وهي عين الباطل؟!» فقهقه الروح المجنون وقال: «وأنت كذلك لا تزال مخدوعًا، وسوف تفقَه معنى هذا القول، وا حسرتاه! لقد التمستُ الأنصار في الأرض فلم أجِدهم، وها أنا ألتمسهم بين الأرواح فيصفونني بالجنون، إنَّ جنوني خير من عقلِكم وخيالي أصدَقُ من حقائقكم.» فأعرضتُ عن الروح المجنون وجئتُ إليك أنقل حديثه.