الليلة الثامنة
أحاط بي اليأس يومًا؛ فاستنجدتُ بالروح الحائر، فلمَّا أجاب ندائي قلت: «أيها الروح الحائر، إنني من الحزن في سجن ضيق، فهل لديك إلى الرجاء سبيل؟» قال: «خفِّف عنك؛ إن الحزن من حاجات الحياة الفانية، وأغلب من ترى من الناس يائسون، إنما يُظهرون القوة ويتعلَّقون بأهداب الرجاء ويخلقون لذلك ألفاظًا عذبة، كيف لا ييأسون وهم لا يدرون من أين أتوا، ولا إلى أين يذهبون، وهم يشعرون في كل خطوة من خطواتهم أنهم مُسيرون، على أنني منذ تركت الأرض تركت معها اليأس، ولكن قد قضيت أيامًا لا أزال أذكرها؛ لأنها ما كان أقساها!» قلت: «حدِّثني عن تلك الأيام؛ لعل بينها وبين أيامي شبهًا.»
قال: «كنت في تلك الأيام في حال يَرثي لها الصفا الصلد، لا أعي على شيء ولا ألوي على أحد، كنت حزين القلب مُشتت اللُّب، إذا خلوتُ بنفسي حدثتني بالويل والثبور؛ فيحيط بي اليأس ويحتويني القنوط ويتمكن منِّي الوجَل مما يأتي به الغد، وإذا جلست إلى الناس كنتُ عنهم في شُغل شاغل؛ يقولون ولا أسمع، ويسمعون ولا أقول، فإذا نبَّهني أحدُ جلاسي إلى ما يبدو على وجهي من الألم والحزن اختلقتُ له عذرًا واستجمعت حواسي؛ فرارًا من سؤال غيره، ولكن عبثًا تحاول الثكلى أن تضحك، وهيهات أن يفرح المحزون.
كنت أنظر حولي فإذا كل ما كان بالأمس يُفرحني ويُضحكني هو اليوم يُحزنني ويُبكيني، كنت قبل اليوم أرى الحديقة ذات الأزهار والأنهار والسماء ذات الشموس والأقمار والأحراش ذات البلابل والأطيار، فَتسُر ناظري رؤيتها وأشعر بلذة الحياة وأُومن بالله وأحمده على نِعَمه، ويجري في عروقي تيار الصفاء، فأهشُّ وأبشُّ لكل من يلقاني؛ لعِلمي أنه من بعض الأنام، على أنني لم أكن في ذلك العهد غنيًّا أو ذا مالٍ يقوم بما أطلب، وكذلك لم أكن أُقيم في قصرٍ مشيد، ولم يكن لي من يُخفف من همي، ولكنني رغم ذلك كله كنتُ شبيهًا بالسعداء.
كنت في بعض الأحيان أشعر بانقباضٍ في النفس وضِيق في الصدر، وكثيرًا ما ذرفتُ دموعًا بلا علَّة معلومة، ولكن هذه الحال لم تكن تدوم أكثر من يومَين أو ثلاثة ثم أعود إلى حالي الأولى، أما الأيام التي ذكرتُها لك فكانت كلها كآبة وأفكاري كلها سوداء، وليس في قلبي مكان يدخُل منه رسول الفرَح، أُقلِّب أجفاني فيما حولي فإذا كل إنسانٍ وكل شيء لا يروقني؛ فلا يُضحكني المِهذار بهزله، ولا يُفرحني الجَذلان بجذَلِه، ولا يُبكيني العاشق بشعره وغزله، ولا يدهشني الغنيُّ بماله، ولا يُحزنني الشقيُّ بسواد حاله، لقد استوى لديَّ الماء والخشب، والراحة والتعَب، والفاقة والنَّشَب!
هؤلاء أصحابي الذين كنتُ أسعد بعِشرتهم يمرُّون بي ويجلسون حولي، ولكنني لا أرى فيهم ما كنتُ أراه فيما مضى، لا أظنُّ أن أمرًا كان ينقصني؛ لأنني كنتُ ألعب بالذهب، ولا أرى في ذلك مسرَّتي، هل ينقُصني صديق وكل هؤلاء أصدقاء؟! هل ينقصني المجد وهو هباء؟! هل تنقصني أُسرة وهيهات أن تعادل حسناتها سيئاتها؟! لا ينقُصني شيء، ولكنني أطلُب كل شيء!
أرى كلَّ شيءٍ في العالَم غامضًا، ولكن نفسي تحدثني أن لا غموض ولا إبهام. إنَّ الأغرار والمجانين ومن يتَّبِعهم من وحوش الإنسانية يقولون عمَّن يُشرِّفون الإنسانية بحُزنهم ضعفاء الأعصاب، يشكون أمراض المَعِدة والأمعاء، ويحتاجون إلى الرياضة البدنية والهواء النقي. وكنت أُخْدَعُ بقولهم قبل اليوم، ولكني علمتُ منذ عهدٍ قريب أن هذا القول الهراء ليس إلا دفاعًا عن مبدئهم الفاسد مبدأ عبادة المادة واحتقار الروح.
لقد عاشرتُ كثيرين من هؤلاء الأقوياء الأعصاب الذين لا يشكون أمراض المعِدة والأمعاء، وخبرتُ شأنهم وسبرتُ غورَهم، فإذا أحدَهم يبذُل النفس والنفيس في سبيل المال، ولا يصُون ما يُسمِّيه شرفًا في الحصول على الأصفر الرنَّان؛ لاعتقاده أنه مفتاح كل باب ومُفرِّج كل كربٍ وفارس كل ميدان. رأيتهم لا يعرفون من مذهب أبيقور إلا النهمة والشَّره، ولا يشغلون أنفسهم إلا بما يلمسونه لمسًا ويعتقدون بوجوده معنًى وحسًّا، وغنيٌّ عن البيان أن أمثال هؤلاء الوحوش يتَّخِذون كلَّ وسيلةٍ في الوصول إلى غايتهم ما دامت الغاية شريفة — كما يقولون، وإنهم يقولون ما لا يعتقدون — هؤلاء الوحوش وقد سمَّيتُهم خنازير البشر لا يروقون في نظري، ولا يُقنعني قولهم، ولا يُفيدني علمهم.
إنني أذكر يومًا من أيام اليأس شعرت منه بالألم، ألم الضعف، ألم المرض والموت، فخفف هذا الشعور سائر آلامي. إن الآلام التي كنت أشعر بها كلها آلام النفس والعقل، آلام روح حائر لا يستطيع أن يستقر على حال، آلام قلبٍ مُشتعل بنار تأكل بعضها؛ لأنها لم تجد ما تأكله.
أرادت الطبيعة أن تُخفف عني فزادتني ألمًا على آلامي، ولكنه الألم الأخير. إن حياتي حلقة أحزان أشعر بها ولا يشعر بها غيري، أرى الآن أن ألم الجسم عندي لذة النفس كما كنت فيما مضى أرى أن في إجهاد الجسد راحة للروح والعقل، عن قريب تدقُّ ساعة حياتي دقتها الأخيرة ويُسدل الموت بيني وبين هذا العالَم حجابًا كثيفًا لا يخترِقه نظر الأحياء من أصدقاءٍ وأعداء، عن قريب يعود التراب إلى التراب وترجع النار إلى النار، عن قريبٍ تصير الظُّلمة نورًا والتَّعَب راحة والألم لذَّة والوجود الفاني عدمًا، عن قريب تغرُب شمسي ويُشَقُّ لي في جوف الأرض مضجع أرقد فيه رقدةً لا قيام بعدَها. ولكن الشمس سوف تُشرق من الشرق وتغرب في الغرب وتملأ العالَم بالنور والحرارة، والأفلاك سوف تدور دورَتها، والأرض سوف تخرج نبتَها، والناس يبقَون كما تركتهم؛ وهم بين لاهٍ عن ميعاده مُترقِّب له خائفًا وجلًا، ومُتألِّم ضجِر يستقدِم ساعته وهي لا تأتي، فلا الشمس وقفت في سَيرها، ولا الأفلاك عطلت عن دورانها، ولا الأرض ضنَّت بنبتِها، ولا الناس حزنت لفراق من كان بالأمس بينهم يسعى.
كنتُ كلما أستعيد ذِكرى الماضي تسودُّ الدنيا في وجهي وتُدثرني الهموم بثوبٍ من الحزن لا ندمًا على ذنب جنيتُه، ولا خوفًا من الموت القادم، ولكن غيظًا من عجزي عن حلِّ ألغاز هذا الوجود!
إنَّني إنسان، ولكنني لستُ كغيري من الناس؛ أنا تستفزُّني كلمة، وتخدَعُني إشارة إخلاص، ويفتنني منظر جميل، ويحزنني بكاء فقير أو أنين عليل، إذا شكا لي حزين ناصفتُه قلبي، وإذا صفا لي صديق وهبتُه لُبِّي، إذا سمعتُ عن شعبٍ ذليل أو أمَّةٍ أسيرة وددتُ لو أنني من أبنائها فأُقدِّم حياتي ضحية لها، فكيف بي وأنا أرى ما أرى! أريد أن أعمل كلَّ شيءٍ ولا أقدر أن أقنع بالقليل، إني أستهين بكل عملٍ أتركه ورائي فكيف بي إذا مِتُّ وأنا لم أترك عملًا يُعيد شباب الوطن ويُعلي قدْر الإنسانية!
تقول عواطفي: «الحياة لا شيء.» فيقول عقلي: «ولكنها كل شيء.» تقول عواطفي: «ماذا يُجدي قطع مِيل في طريق لا حدَّ لغايته ولا بدء لنهايته؟!» فيقول عقلي: «إن قطع مِيل أفضل من قطع الأمل.» تقول عواطفي: «ما غاية المجد الفارغ إذا كان مصير صاحبه إلى الفناء الذي لا وجود بعده؟» فيقول العقل: «قد يكون مجد رجلٍ نبراسًا يضيء محجَّة أمَّة، ويكون فوز أمة فوزًا للإنسانية بأسرِها، وقد لا يعرِف المرء قدْر عمله.» تقول عواطفي: «الموت خير من الحياة في عالَمٍ يعيش فيه النبيل العظيم محسودًا مكروهًا مُحتقرًا غريبًا في أهله أجنبيًّا في وطنه يُخلِص له الناس ليخدعوه، ويمدحونه ليذبحوه، ويرفعونه ليخفضوه، ويُعظمونه ليستصغروه.» فيقول العقل: «صه! فما أنت يا نفسي أول من عاش ومات ولم يُعْرَف قدرُه، ولا أنت بأول زهرةٍ ضاع أريجها هباءً، ولا بأول شُعلة تبدَّد ضوءُها عبثًا.» طال أمر هذا العراك بين القلب والعقل، وهيهات أن يتفق النقيضان أو يتَّحِد الضدَّان. الموت مرقد الآلام، وهو وحدَه يحكم بين الاثنين؛ القلب والعواطف، كنتُ بالأمس أُريد أن يحزن لي كل من عرفني، واليوم تمنَّيتُ لو لم يعرفني أحد، بالأمس كنت خاملًا أريد الشهرة، واليوم أراني شهيرًا أريد الخمول، بالأمس كنتُ أندُب قلة أصحابي، واليوم أندب كثرة الخلان، بالأمس كنت أودُّ لو تطول أيام الحياة، واليوم يحزنني أن تطول، بالأمس كنتُ في عين نفسي كل شيء، واليوم أصبحتُ لا شيء. لقد ذُقت سائر صنوف الآلام، فوجدتُ أشدَّها على النفس وأقساها ألم لا يذوقه كثيرون، ومن يذوقه مرة لا يعيش ليذوقه أخرى؛ وهذا هو ضيعة آمال الفرد أو الجماعة واختفاؤها عن عين الفكر اختفاء السَّراب عن النظر بعد تمكُّن الظمأ من الناظر، آمال سنين تُهْدَم في طرفة عين، وآمال طرفة عين لا تُحَقَّق في سنين!
هذه صورة من فكري وأنا على حافة القبر، فلتكن عبرةً من العبر، ولكن هيهات أن يكون في الناس من يعتبر!»
ثم سكت الروح الحائر، وصاح ديك مؤذن بالفجر، فقلت: إيه لك أيها الروح، لقد هدمتَ ما بناه الأوائل والأواخر، وهزأت بالصغائر والكبائر، لقد أغرقت البشر في بحرٍ من الحزن والقنوط، وتركتهم من الحسرة واليأس في مُحيط زاخر.
قال: «اسمع، إنني الآن خرجتُ من أرضكم بعد أن خبرتُ أمرَها، فلمَّا تجردتُ عن المادة فطنت إلى سرها، إن الحزن معدنكم، وقد عجنتِ الأربابُ الإنسانية بأمواه اليأس، ثم أخذتها سنةٌ فاختلس إله الحب غفوتها ووضع في العجين خميرة الأمل، فمُلئتم به، ثم خُبزتم في أتون الشقاء، وخرجتم كالأرغفة، كل رغيف لُقمة لآكل. إنكم أبناء الندامة، تمرحون لحظة في بساتين الرجاء، وقصة آدم من الأساطير الأولى الخالدة؛ لأن لكلٍّ منكم تفَّاحةً وثعبانًا. أنتم — أيها الناس — قطع الشطرنج، والقضاء والقدر لاعبان. أنتم — أيها الناس — صور تُحرِّكُكم يدُ الدهر في ملعب الوجود الحقير، والصوت المسموع فيكم هو صوت الحزن الدائم والعويل. اتخذتم الضحك وهو شكل من أشكال البكاء، رقصتم لتُخدِّروا أبدانكم بخمر الحركات لتغيب عنكم الأحزان، سَكِرتم لتقتلوا الهموم، لهوتم؛ لأن اللهو ملجأ الضعفاء، كلكم ذليل، وأعزُّكم أذلُّكم، حتى الملوك على عروشهم وأرباب أوليمبية لها يوم تنوح فيه. ألم تسمَعوا صوت سوفوكليس المجيد وهو عينكم الباكية وصوتكم الناعب ولسانكم الصائح؟ كلكم «الملك أُديب»؛ لأن كلكم هدف لسهام الزمان، كلكم يتصدَّاكم القضاء ليقضي عليكم إذا آن الأوان، إن الطبيعة التي تدعونها جهلًا وتمليقًا أُمَّكم الحنون تحتقِركم وتزدريكم وتبعث إليكم بوحوشها وأوبائها وإعصارها، البحار تلتهِمُكم، والنيران تأكلكم، والشهوات تُغري نفوسكم وتفني أبدانكم. فلاسفتكم أقلُّكم، هم يختفون وراء الألفاظ التي لا يفهمون معناها، ويسخرون منكم كلَّما أبهموا في الآراء، نظاماتكم الأرضية الموضوعة فاسدة، وقوانينكم وضعها المُنتفعون بها، وأنتم كقطيعٍ من الغنم يهشُّ عليه الراعي بعصاه، يا حمقى! يا طائعين طاعة عمياء! أيها العُمي، إنكم لا تبصرون، هكذا كان أجدادكم، وهكذا أنتم، وهكذا يكون بعدكم الأحفاد، أين سقراط صاحب العقل الأول رسول الأنبياء وشيخ الحكماء؟ لقد جرَّعتموه كأس السُّمِّ وأنتم جاهلون، وعيسى صلبتموه، وقُلتم عن محمد إنه مجنون. جاءكم الإسكندر وقيصر فجلدا شعوبكم بالسياط، وجرَّا ملوك الشرق والغرب من أرجلهم، ثم جاء الملوك فأخرجوا الأرباب من أماكنها المقدسة، وتمسَّكوا أمامكم بحقوقٍ قالوا إنها من الله. لعدلكم في كل مكان معنًى، وللفضيلة في كل بلدٍ بيان، لقد طمستُم وجه الحقيقة ولمَّا تعرفوها، أسماكُم فكرًا كطفلٍ على شاطئ بحر الحقيقة يلتقِط الأصداف ويغيب عنه الدر والجمان. سألتَنِي عن حالِكم فهذه حالُكم يا بني الإنسان.
قلت: «كفى، كفى أيها الروح الحائر! ليس بعد هذا القول مجال، وأنتم — أيها الأرواح — ماذا علمتم؟ وماذا أوجدتم وراء الطبيعة؟ وهل حللتُم لغز الوجود؟»
فقال: «اسمع كلمتي الأخيرة قبل وضوح الفجر: إنني أُبقي القول إلى المستقبل، وكفاك حديث الليلة في عالمكم ريثما تتأهَّب للوقوف على سِرِّ الوجود، إنه يأتي إلينا بمقدار!»