فلما كانت الليلة ٤١١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب والشابة لما التقَيَا بين الفريقين وتعانَقَا، خرَّا إلى الأرض ميتَيْن، فخرج شيخ من تلك الأخبية ووقف عليهما واسترجع وبكى بكاء شديدًا ثم قال: رحمكما الله تعالى، والله لئن كنتما لم تُجمَعَا في حال حياتكما، لَأجمعن بينكما بعد الموت. ثم أمر بتجهيزهما، فغُسِّلَا وكُفِّنَا في كفن واحد، وحفر لهما جدث واحد، وصلَّى عليهما الناس ودفنوهما في ذلك القبر، ولم يَبْقَ في الفريقين ذكر ولا أنثى إلا رأيته يبكي عليهما ويلطم، فسألت الشيخ عنهما فقال لي: هذه ابنتي وهذا ابن أخي، بلغ بهما الحب إلى ما رأيت. فقلت: أصلحهما الله، فهلا زوَّجْتُهما لبعضهما؟ قال: خشيتُ من العار والفضيحة، وقد وقعت الآن فيهما. وهذا من عجائب أخبار العشاق.
حكاية العاشق المجنون
ومما يُحكَى أن أبا العباس المبرد قال: قصدت البريد مع جماعة إلى حاجة، فمررنا بدير هرقل فنزلنا في ظله، فجاءنا رجل وقال: إن في الدير مجانين، فيهم رجل مجنون ينطق بالحكمة، فلو رأيتموه لَتعجَّبْتُم من كلامه. فنهضنا جميعًا ودخلنا الدير، فرأينا رجلًا جالسًا في مقصورة على نطع، وقد كشف رأسه وهو شاخص ببصره إلى الحائط، فسلَّمْنا عليه فردَّ علينا السلام من غير أن ينظر إلينا بطرفه، فقال الرجل: أَنْشِده شعرًا؛ فإنه إذا سمع الشعر يتكلم. فأنشدتُ هذين البيتين:
فلما سمع ذلك مني، استدار نحونا وأنشد هذه الأبيات:
ثم قال: أحسنتُ في قولي أم أسأتُ؟ قلنا له: ما أسأتَ بل أحسنتَ وأجملت. فمد يده إلى حجر عنده فتناوله، فظننا أنه يرمينا به فهربنا منه، فجعل يضرب به صدره ضربًا قويًّا ويقول: لا تخافوا وادنوا مني واسمعوا لي شيئًا خذوه عني. فدنونا منه، فأنشد هذه الأبيات:
ثم إنه نظر إليَّ وقال: هل عندك علم بما فعلوا؟ قلت: نعم، إنهم ماتوا رحمهم الله تعالى. فتغيَّرَ وجهه ووثب قائمًا على قدميه وقال: كيف علمتَ موتهم؟ قلتُ: لو كانوا أحياء ما تركوك هكذا. فقال: صدقتَ والله، ولكنني أيضًا لا أحِبُّ الحياةَ بعدهم. ثم ارتعدت فرائصه وسقط على وجهه، فتبادرنا إليه وحرَّكناه فوجدناه ميتًا، رحمة الله تعالى عليه، فتعجَّبْنا من ذلك وأسفنا عليه أسفًا شديدًا، ثم جهَّزناه ودفناه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.