فلما كانت الليلة ٤١٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المبرد قال: لما سقط الرجل ميتًا أسفنا عليه وجهَّزْناه ودفناه، فلما رجعت إلى بغداد دخلت على المتوكل، فنظر آثار الدموع على وجهي فقال: ما هذا؟ فذكرتُ له القصة، فصعب عليه وقال: ما حملك على ذلك؟ والله لو علمتُ أنك غير حزين عليه لَأخذتُك به. ثم إنه حزن عليه بقية يومه.
حكاية إسلام الراهب
ومما يُحكَى أن أبا بكر بن محمد الأنباري قال: خرجتُ من الأنبار في بعض الأسفار إلى عمورية من بلاد الروم، فنزلتُ في أثناء الطريق بدير الأنوار في قرية قريبة من عمورية، فخرج إليَّ صاحب الدير الرئيس على الرهبان، وكان اسمه عبد المسيح، فأدخلني الدير فوجدتُ فيه أربعين راهبًا، فأكرموني في تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم في الغد، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أرَهُ من غيرهم، فقضيتُ أربى من عمورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان في العام المقبل حججتُ إلى مكة، فبينما أنا أطوف حول البيت إذ رأيتُ عبد المسيح الراهب يطوف أيضًا، ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما تحقَّقتُ معرفتَه تقدَّمْتُ إليه وقلتُ له: هل أنت عبد المسيح الراهب؟ قال: بل أنا عبد الله الراغب. فجعلتُ أقبِّلُ شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده ومِلت إلى جانب الحرم، وقلت له: أخبرني عن سبب إسلامك. فقال: إنه من أعجب العجائب، وذلك أن جماعة من زهَّاد المسلمين مرُّوا بالقرية التي فيها ديرنا، فأرسلوا شابًّا يشتري لهم طعامًا، فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز، وهي من أحسن النساء صورةً، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط على وجهه مغشيًّا عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه، وقال: امضوا إلى شأنكم، فلست بذاهب معكم. فعذلوه ووعظوه، فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا عنه، ودخل القرية وجلس عند باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعامًا، بل صار شاخصًا إلى وجهها، فلما رأته لا ينصرف عنها ذهبَتْ إلى أهلها وأخبرتهم بخبره؛ فسلَّطوا عليه الصبيان، فرموه بالحجارة حتى رضُّوا أضلاعه وشجُّوا رأسه، وهو مع ذلك لا ينصرف، فعزم أهل القرية على قتله، فجاءني رجل منهم وأخبرني بحاله، فخرجتُ إليه فرأيته طريحًا، فمسحتُ الدمَ عن وجهه وحملتُه إلى الدير وداويتُ جراحه، وأقام عندي أربعة عشر يومًا، فلما قدر على المشي خرج من الدير. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.