فلما كانت الليلة ٤٧١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السجَّان لما أخبر الحجاج بخبر الرجل قال للرجل: ويحك! هل سمعتَه يقول شيئًا؟ قال: نعم. كان إذا ضرب الحداد بالمطرقة ينظر إلى السماء ويقول: أَلَا له الخلق والأمر. فقال الحجاج: أَوَمَا علمتَ أن الذي ذكره وأنت حاضر، سرحه وأنت عنه غائب؟ وقد أنشَدَ لسان الحال في هذا المعنى وقال:
حكاية الحداد الذي يُدخِل يدَه في النار فلا تعدو عليه
وحُكِي أن رجلًا من الصالحين بلغه أن بمدينة كذا وكذا حدادًا يُدخِل يدَه في النار، ويأخذ الحديدة المحماة منها بها فلا تعدو عليه النار؛ فقصد الرجلُ تلك البلدة يسأل عن الحدَّاد، فدُلَّ عليه، فلما نظره وتأمَّلَه رآه يصنع ما قد وُصِف له، فأمهله حتى فرغ من عمله وأتاه وسلَّمَ عليه، وقال له: إني أريد أن أكون الليلةَ ضيفَك. فقال: حبًّا وكرامة. فاحتمله إلى منزله وتعشَّى معه ونامَا جميعًا، فلم يَرَ له أثر قيام ولا عبادة، فقال في نفسه: لعله يستتر مني. فبات عنده ثانية وثالثة، فرآه لا يزيد على الفرض إلا السنن، ولا يقوم من الليل إلا القليل. فقال له: يا أخي، إني سمعتُ عمَّا أكرَمَك الله به ورأيتُه باديًا عليك، ثم نظرتُ إلى اجتهادك فلم أَرَ منك عملَ مَن تظهر عليه الكرامات؛ فمن أين لك هذا؟ قال: إني أحدِّثك بسببه؛ وذلك أني كنتُ تولَّعْتُ بجارية وكنتُ بها كَلِفًا، فراودْتُها عن نفسها كثيرًا، فلم أقدر عليها لاعتصامها بالوَرَع، فجاءت سنةُ قحطٍ وجوعٍ وشدة، فعُدِم الطعام وعَظُم الجوع، فبينما أنا قاعد إذ قرع البابَ قارعٌ، فخرجت، فإذا هي واقفة فقالت: يا أخي، أصابني جوع شديد وقد رفعتُ إليك رأسي لتُطعِمني لله. فقلت لها: أَمَا تعلمين ما كان من حبك وما قاسيتُه من أجلك؟ فأنا لا أُطعِمُك شيئًا حتى تمكِّنيني من نفسك. فقالت: الموت ولا معصية الله. ثم رجعت وعادَتْ بعد يومين، فقالت لي مثل مقالتها الأولى، وقلت مثل جوابي الأول؛ فدخلَتْ وقعدَتْ في البيت وقد أشرفَتْ على الهلاك، فلما جعلْتُ الطعامَ بين يديها، ذرفت عيناها وقالت: أطعمني لله عزَّ وجلَّ. فقلتُ لها: لا والله إلا أن تمكِّنيني من نفسك. فقالت: الموت خير لي من عذاب الله تعالى. وقامت وتركَتِ الطعام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.