فلما كانت الليلة ٤٨١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن التاجر لما قال له الملك: أَقِمِ الليلةَ عندنا. قال: إن لي في السفينة وديعة عاهدتها أنْ لا أوكل أمرها إلى غيري، وهي امرأة صالحة تيمَّنْتُ بدعائها، وظهرت لي البركة في آرائها، فقال الملك: سأبعث إليها أمناء يبيتون عليها، ويحرسون كلَّ ما لديها. قال: فأجابه لذلك، وبقي عند الملك، ووجَّهَ الملكُ كاتبَه ووكيلَه إليها، وقال لهما: اذهبَا فاحرسَا سفينةَ هذا الرجل الليلةَ إن شاء الله تعالى. قال: فسارَا وصعدَا إلى السفينة، وقعد هذا على مؤخرها، وهذا على مقدمها، وذكرَا الله عزَّ وجلَّ برهة من الليل، ثم قال أحدهما للآخَر: يا فلان، إن الملك قد أمرنا بالحراسة، ونخاف النوم، فتعالَ نتحدَّث بأخبار الزمان، وما رأيناه من الخير والامتحان، فقال الآخَر: يا أخي، أمَّا أنا فمن امتحاني أن فرَّقَ الدهرُ بيني وبين أبي وأمي وأخٍ لي كان اسمه كاسمك، والسبب في ذلك أنه ركب والدنا البحر من بلد كذا وكذا، فهاجت علينا الرياح، واختلفت فكسرت السفينة، وفرَّقَ اللهُ شملنا. فلما سمع الآخَر بذلك قال: وما كان اسم والدتك يا أخي؟ قال: فلانة. قال: وما اسم والدك؟ قال: فلان. فترامى الأخ على أخيه وقال له: أنت أخي والله حقًّا. وجعل كلُّ واحد منهما يحدِّث أخاه بما جرى عليه في صِغَره، والأم تسمع الكلام، ولكنها كتمت أمرها وصبَّرَتْ نفسها، فلما طلع الفجر قال أحدهما للآخَر: سِرْ يا أخي نتحدَّث في منزلي. قال: نعم. فسارَا وأتى الرجل، فوجد المرأة في كرب شديد، فقال لها: ما دهاك؟ وما أصابك؟ قالت: بعثتَ إليَّ الليلةَ مَن أراداني بالسوء، وكنت منهما في كرب عظيم. فغضب التاجر وتوجَّهَ للملك، وأخبره بما فعل الأمينان، فأحضرهما الملك بسرعة، وكان يحبهما لما تحقَّقَ فيهما من الأمانة والديانة، ثم أمر بإحضار المرأة حتى تذكر ما كان منهما مشافَهةً، فجِيء بها وأُحضِرت، وقال لها: أيتها المرأة، ماذا رأيتِ من هذين الأمينين؟ فقالت: أيها الملك، أسألك بالله العظيم ربِّ العرش الكريم إلا ما أمرتهما أن يُعِيدَا كلامهما الذي تكلَّمَا به البارحة. فقال لهما الملك: قولَا ما قلتماه، ولا تكتمَا منه شيئًا. فأعادَا كلامهما، وإذا بالملك قد قام من فوق سريره، وصاح صيحة عظيمة، وترامى عليهما واعتنقهما، وقال: والله أنتما ولداي حقًّا. فكشفَتِ المرأة عن وجهها وقالت: أنا والله أمهما. فاجتمعوا جميعًا وصاروا في ألذ عيش وأهناه، إلى أن أبادهم الموت، فسبحان مَن إذا قصده العبدُ نجَّاه، ولم يخيِّب ما أمله فيه ورجاه! وما أحسن ما قيل في المعنى:
حكاية أبي الحسن الدرَّاج وأبي جعفر المجذوم
ومما يُحكَى أن أبا الحسن الدراج قال: كنتُ كثيرًا ما آتي مكة زادها الله شرفًا، وكان الناس يتبعونني لمعرفتي بالطريق وحفظ المناهل؛ فاتفق في عام من الأعوام أني أردتُ الوصول إلى بيت الله الحرام وزيارة قبر نبيه عليه الصلاة والسلام، وقلت في نفسي: أنا عارف بالطريق فأذهب وحدي. ومشيت حتى وصلت إلى القادسية فدخلتها وأتيت المسجد، فرأيت رجلًا مجذوبًا قاعدًا في المحراب، فلما رآني قال: يا أبا الحسن، أسألك الصحبة إلى مكة. فقلت في نفسي: إني فررتُ من الأصحاب وكيف أصحب المجذوبين؟ ثم قلت له: إني لا أصحب أحدًا. فسكت عني. فلما أصبح الصباح مشيتُ في الطريق وحدي، ولم أزل منفردًا حتى وصلت إلى العقبة ودخلت المسجد، فلما دخلته وجدتُ الرجل المجذوب في المحراب، فقلتُ في نفسي: سبحان الله! كيف سبقني هذا إلى ها هنا؟ فرفع رأسه إليَّ وتبسَّمَ وقال: يا أبا الحسن، يُصنَع للضعيف ما يتعجَّب منه القوي. فبتُّ تلك الليلة متحيِّرًا مما رأيت، فلما أصبحت سلكت الطريق وحدي، فلما وصلت إلى عرفات وقصدتُ المسجد، إذا الرجل قاعد في المحراب؛ فتراميتُ عليه وقلتُ له: يا سيدي، أسألك الصحبة. وجعلتُ أقبِّل قدمَيْه، فقال: ليس لي إلى ذلك سبيل. فجعلتُ أبكي وأنتحب لما حُرِمت من صحبته، فقال لي: هوِّنْ عليك، فإنه لا ينفعك البكاء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.