فلما كانت الليلة ٤٨٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحكيم اليوناني رجع إلى بيته، وواقَعَ زوجته، فحملت منه تلك الليلة، ثم بعد أيام سافَرَ إلى مكان في مركب فانكسرت به المركب، وراحت كتبه في البحر، وطلع هو على لوحٍ من تلك السفينة، وكان معه خمس ورقات بقيت من الكتب التي وقعت منه في البحر، فلما رجع إلى بيته وضع تلك الأوراق في صندوق، وقفل عليها، وكانت زوجته قد ظهر حملها، فقال لها: اعلمي أني قد دَنَتْ وفاتي، وقرب انتقالي من دار الفناء إلى دار البقاء، وأنت حامل فربما تلدين بعد موتي صَبِيًّا ذَكَرًا، فإذا وضعتِه فسمِّيه حاسب كريم الدين، وربِّيه أحسن التربية، فإذا كبر وقال لك: ما خلَّفَ لي أبي من الميراث؟ فأَعْطِيه هذه الخمس ورقات، فإذا قرأها وعرف معناها يصير أعلم أهل زمانه. ثم إنه ودَّعَها وشهق شهقة ففارَقَ الدنيا وما فيها، رحمة الله تعالى عليه؛ فبكى عليه أهله وأصحابه، ثم غسَّلوه وأخرجوه خرجة عظيمة، ودفنوه ورجعوا، ثم إن زوجته بعد أيام قلائل وضعَتْ ولدًا مليحًا، فسمَّتْه حاسب كريم الدين، كما أوصاها به، ولما ولدته أحضرَتْ له المنجِّمُون، فحسبوا طالعه، وناظره من الكواكب، ثم قالوا لها: اعلمي أيتها المرأة أن هذا المولود يعيش أيامًا كثيرة، ولكن بعد شدة تحصل له في مبدأ عمره، فإذا نجا منها فإنه يُعطَى بعد ذلك عِلْمَ الحكمة. ثم مضى المنجِّمُون إلى حال سبيلهم، فأرضعَتْه اللبن سنتين، وفطمته، فلما بلغ خمس سنين حطته في المكتب ليتعلم شيئًا من العلم، فلم يتعلم؛ فأخرجَتْه من المكتب، وحطَّتْه في الصنعة فلم يتعلَّم شيئًا من الصنعة، ولم يطلع من يده شيء من الشغل، فبكت أمه من أجل ذلك، فقال لها الناس: زوِّجِيه لعله يحمل هَمَّ زوجته، ويتَّخِذ له صنعة، فقامت وخطبت بنتًا وزوَّجَتْه بها، ومكث على ذلك الحال مدة من الزمان، وهو لم يتَّخِذ له صنعة قطُّ.
ثم إنهم كان لهم جيران حطَّابون، فأتوا إلى أمه وقالوا لها: اشتري لابنك حمارًا وحبلًا وفأسًا، ويروح معنا إلى الجبل، فنحتطب نحن وإياه، ويكون ثمن الحطب له ولنا، وينفق عليكم ممَّا يخصه. فلما سمعَتْ أمه ذلك من الحطَّابين فرِحَتْ فرحًا شديدًا، واشترَتْ لابنها حمارًا وحبلًا وفأسًا، وأخذَتْه وتوجَّهَتْ به إلى الحطَّابين، وسلَّمته إليهم، وأوصتهم عليه، فقالوا لها: لا تحملي هَمَّ هذا الولد؛ ربنا يرزقه، وهذا ابن شيخنا. ثم أخذوه معهم، وتوجَّهوا إلى الجبل، فقطعوا الحطب، وحملوا حميرهم وأتوا إلى المدينة وباعوا الحطب، وأنفقوا على عيالهم، ثم إنهم شدوا حميرهم، ورجعوا إلى الاحتطاب في ثاني يوم وثالث يوم، ولم يزالوا على هذه الحالة مدةً من الزمان؛ فاتفق أنهم ذهبوا إلى الاحتطاب في بعض الأيام، فنزلت عليهم مطرة عظيمة، فهربوا إلى مغارة عظيمة ليداروا أنفسهم فيها من تلك المطرة، فقام من عندهم حاسب كريم الدين، وجلس وحده في مكانٍ من تلك المغارة، وصار يضرب الأرضَ بالفأس، فسمع حسَّ الأرض خالية من تحت الفأس، فلما عرف أنها خالية مكث يحفر ساعة، فرأى بلاطة مدوَّرة، وفيها حلقة، فلما رأى ذلك فرِحَ ونادى جماعته الحطَّابين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.