فلما كانت الليلة ٤٨٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ملكة الحيات لما سمعَتْ حكايةَ حاسب كريم الدين من أولها إلى آخِرها، قالت له: ما يحصل لك إلا كلُّ خير، ولكن أريد منك يا حاسب أن تقعد عندي مدة من الزمان حتى أحكي لك حكايتي، وأُخبِرك بما جرى لي من العجائب. فقال لها: سمعًا وطاعةً فيما تأمرينني به. فقالت له: اعلم يا حاسب أنه كان بمدينة مصر مَلِك من بني إسرائيل، وكان له ولد اسمه بلوقيا، وكان هذا الملك عالِمًا عابدًا مُكِبًّا على قراءة كتب العلم، فلما ضعف وأشرف على الموت طلع له أكابر دولته ليسلِّموا عليه، فلما جلسوا عنده وسلَّموا عليه، قال لهم: يا قوم، اعلموا أنه قد دنَا رحيلي من الدنيا إلى الآخرة، وما لي عندكم شيء أوصيكم به إلا ابني بلوقيا، فاستوصوا به. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. وشهق شهقة ففارَقَ الدنيا رحمة الله عليه؛ فجهَّزوه وغسَّلوه ودفنوه، وأخرجوه خرجة عظيمة، وجعلوا ولده بلوقيا سلطانًا عليهم، وكان ولده عادلًا في الرعية، واستراحت الناس في زمانه، فاتفق في بعض الأيام أنه فتح خزائن أبيه ليتفرَّج فيها، ففتح خزانة من تلك الخزائن، فوجد فيها صورة بابٍ، ففتحه ودخل، فإذا هي خلوة صغيرة، وفيها عمود من الرخام الأبيض، وفوقه صندوق من الأبنوس، فأخذه بلوقيا وفتحه فوجد فيه صندوقًا آخَر من الذهب، ففتحه فرأى فيه كتابًا، ففتح الكتاب وقرأه، فرأى فيه صفة محمد ﷺ، وأنه يُبعث في آخِر الزمان، وهو سيد الأولين والآخِرين، فلما قرأ بلوقيا هذا الكتاب، وعرف صفات سيدنا محمد ﷺ تعلَّقَ قلبه بحبه، ثم إن بلوقيا جمع أكابر بني إسرائيل من الكهان والأحبار والرهبان، وأَطْلَعَهم على ذلك الكتاب، وقرأه عليهم وقال لهم: يا قوم، ينبغي أن أُخرِج أبي من قبره وأحرقه. فقال له قومه: لأي شيء تحرقه؟ فقال لهم بلوقيا: لأنه أخفى عني هذا الكتاب ولم يُظهِره لي، وقد كان استخرجه من التوراة، ومن صحف إبراهيم، ووضع هذا الكتاب في خزائنه، ولم يُطلِع عليه أحدًا من الناس. فقالوا له: يا ملكنا، إن أباك قد مات، وأمره مفوَّض إلى ربه، وهو الآن في التراب، ولا تُخرِجه من قبره. فلما سمع بلوقيا هذا الكلام من أكابر بني إسرائيل، عرف أنهم لا يمكِّنونه من أبيه، فتركهم ودخل على أمه وقال لها: يا أمي، إني رأيت في خزائن أبي كتابًا فيه صفة محمد ﷺ، وهو نبي يُبعَث في آخِر الزمان، وقد تعلَّقَ قلبي بحبه، وأنا أريد أن أسيح في البلاد حتى أجتمع به، فإنني إنْ لم أجتمع به متُّ غرامًا في حبه. ثم نزع ثيابه، ولبس عباءة وزربونًا، وقال: لا تنسيني يا أمي من الدعاء. فبكت عليه أمه، وقالت له: كيف يكون حالنا بعدك؟ قال بلوقيا: ما بقي لي صبر أبدًا، وقد فوَّضْتُ أمري وأمرك إلى الله تعالى. ثم خرج سائحًا نحو الشام، ولم يدرِ به أحدٌ من قومه، وسار حتى وصل إلى ساحل البحر، فرأى مركبًا فنزل فيها مع الركاب، وسارت بهم إلى أن أقبلوا على جزيرة، فطلع الركاب من المركب إلى تلك الجزيرة، وطلع معهم، ثم انفرد عنهم في الجزيرة، وقعد تحت شجرة، فغلب عليه النوم فنام، ثم إنه أفاق من نومه، وقام إلى المركب لينزل فيها، فرأى المركب قد أقلعت، ورأى في تلك الجزيرة حيات مثل الجِمَال، ومثل النخل، وهم يذكرون الله عزَّ وجلَّ ويصلون على محمد ﷺ، ويصيحون بالتهليل والتسبيح، فلما رأى بلوقيا تعجَّبَ غايةَ العجب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.