فلما كانت الليلة ٤٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا لما رأى عفانًا احترق، وصار كومَ رمادٍ، وقع مغشيًّا عليه، وأمر الربُّ جلَّ جلاله جبريلَ أن يهبط إلى الأرض قبل أن تنفخ الحية على بلوقيا، فهبط إلى الأرض بسرعة، فرأى بلوقيا مغشيًّا عليه، ورأى عفانًا احترق من نفخة الحية، فأتى جبريل إلى بلوقيا، وأيقظه من غشيته، فلما أفاق سلَّمَ عليه جبريل، وقال له: من أين أتيتم على هذا المكان؟ فحكى له بلوقيا جميع حكايته من الأول إلى الآخِر، ثم قال له: اعلم أنني ما أتيتُ إلى هذا المكان إلا بسبب محمد ﷺ، فإن عفانًا أخبرني أنه يُبعَث في آخِر الزمان، ولا يجتمع به إلا مَن يعيش إلى ذلك الوقت، ولا يعيش إلى ذلك الوقت إلا مَن شرب من ماء الحياة، ولا يمكن ذلك إلا بحصول خاتم سليمان عليه السلام؛ فصحبته إلى هذا المكان، وحصل له ما حصل، وها هو قد احترق، وأنا لم أحترق، ومرادي أن تخبرني بمحمد أين يكون؟ فقال له جبريل: يا بلوقيا، اذهب إلى حال سبيلك، فإن زمان محمد بعيد. ثم ارتفع جبريل إلى السماء من وقته.
وأما بلوقيا فإنه صار يبكي بكاءً شديدًا، وندم على ما فعل، وتفكَّرَ قول ملكة الحيات: هيهات أن يقدر أحد على أخذ الخاتم. وتحيَّرَ بلوقيا في نفسه وبكى، ثم إنه نزل من الجبل وسار، ولم يزل سائرًا حتى قرب من شاطئ البحر، وقعد هناك ساعة يتعجب من تلك الجبال والبحار والجزائر، ثم بات تلك الليلة في ذلك الموضع، ولما أصبح الصباح دهن قدمَيْه من الماء الذي كانَا أخذاه من العشب، ونزل البحر، وسار ماشيًا فيه أيامًا وليالي وهو يتعجب من أهوال البحر وعجائبه وغرائبه، وما زال سائرًا على وجه الماء حتى وصل إلى جزيرةٍ كأنها الجنة، فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة، وصار يتعجب منها ومن حُسْنها، وساح فيها فرآها جزيرة عظيمة، ترابها من الزعفران، وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين، وزرعها من أحسن الأشجار، وأبهج الرياحين وأطيبها، وفيها عيون جارية، وحطبها من العود القماري والعود القاقلي، وبوصها قصب السكر، وحولها الورد والنرجس والعبهر والقرنفل والأقحوان والسوس والبنفسج، وكل ذلك فيها أشكال وألوان، وأطيارها تناغي على تلك الأشجار، وهي مليحة الصفات، واسعة الجهات، كثيرة الخيرات، قد حوت جميع الحسن والمعاني، وتغريد أطيارها ألطف من رنات المثاني، وأشجارها باسقة، وأطيارها ناطقة، وأنهارها دافقة، وعيونها جارية، ومياهها حالية، وفيها الغزلان تمرح، والجآذر تسنح، والأطيار تناغي على تلك الأغصان، وتسلي العاشق الولهان، فتعجَّبَ بلوقيا من هذه الجزيرة، وعلم أنه قد تاه عن الطريق التي قد أتى منها أول مرة حين كان معه عفان، فساح في تلك الجزيرة وتفرج فيها إلى وقت المساء.
فلما أمسى عليه الليل طلع على شجرة عالية لينام فوقها، وصار يتفكَّر في حُسْن تلك الجزيرة، فبينما هو فوق الشجرة على تلك الحالة، وإذ بالبحر قد اختبط، وطلع منه حيوان عظيم، وصاح صياحًا عظيمًا حتى انزعجت حيوانات تلك الجزيرة من صياحه، فنظر إليه بلوقيا وهو جالس على الشجرة، فرآه حيوانًا عظيمًا، فصار يتعجَّب منه، فلم يشعر بعد ساعة إلا وطلع خلفه من البحر وحوش مختلفة الألوان، وفي يد كل وحش منها جوهرة تضيء مثل السراج، حتى صارت الجزيرة مثل النهار من ضياء الجواهر، وبعد ساعة أقبلت من الجزيرة وحوش لا يعلم عددها إلا الله تعالى، فنظر إليها بلوقيا فرآها وحوش الفلاة من سباع ونمور وفهود، وغير ذلك من حيوانات البر، ولم تزل وحوش البر مقبلة حتى اجتمعت مع وحوش البحر في جانب الجزيرة، وصاروا يتحدثون إلى الصباح. فلما أصبح الصباح افترقوا من بعضهم، ومضى كلُّ واحد منهم إلى حال سبيله، فلما رآهم بلوقيا خاف ونزل من فوق الشجرة، وسار إلى شاطئ البحر، ودهن قدمَيْه من الماء الذي معه، ونزل البحر الثاني، وسار على وجه الماء ليالي وأيامًا حتى وصل إلى جبل عظيم، وتحت ذلك الجبل وادٍ ما له آخر، وذلك الوادي حجارته من المغناطيس، ووحوشه سباع وأرانب ونمور، فطلع بلوقيا إلى ذلك الجبل وساح فيه من مكان إلى مكان حتى أمسى عليه المساء، فجلس تحت قنة من قنن ذلك الجبل بجانب البحر، وسار يأكل من السمك الناشف الذي يقذفه البحر.
فبينما هو جالس يأكل من ذلك السمك، وإذا بنمر عظيم أقبل على بلوقيا، وأراد أن يفترسه، فالتفت بلوقيا إلى ذلك النمر فرآه هاجمًا عليه ليفترسه، فدهن قدميه من الماء الذي معه، ونزل البحر الثالث هربًا من ذلك النمر، وسار على وجه الماء في الظلام، وكانت ليلة سوداء ذات ريح عظيم، وما زال سائرًا حتى أقبل على جزيرة، فطلع عليها، فرأى فيها أشجارًا رطبة ويابسة، فأخذ بلوقيا من ثمر تلك الأشجار، وأكل وحمد الله تعالى، ودار فيها يتفرج إلى وقت المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.