فلما كانت الليلة ٤٩١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا دار يتفرَّج في تلك الجزيرة، ولم يزل دائرًا يتفرج فيها إلى وقت المساء، فنام في تلك الجزيرة، ولما أصبح الصباح صار يتأمل في جهاتها، ولم يزل يتفرج فيها مدة عشرة أيام، وبعد ذلك توجَّهَ إلى شاطئ البحر، ودهن قدمَيْه، ونزل في البحر الرابع، ومشى على وجه الماء ليلًا ونهارًا حتى وصل إلى جزيرة، فرأى أرضها من الرمل الناعم الأبيض، وليس فيها شيء من الشجر، ولا من الزرع، فتمشى فيها ساعة، فوجد وحشها الصقور وهي معششة في ذلك الرمل، فلما رأى ذلك دهن قدمَيْه ونزل في البحر الخامس، وسار فوق الماء، وما زال سائرًا ليلًا ونهارًا حتى أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور، وفيها العروق التي يُصنَع منها الذهب، وفيها أشجار غريبة ما رأى مثلها في سياحته، وأزهارها كلَوْنِ الذهب، فطلع بلوقيا إلى تلك الجزيرة، وصار يتفرج فيها إلى وقت المساء، فلما جنَّ عليه الظلام صارت الأزهار تضيء في تلك الجزيرة كالنجوم، فتعجَّبَ بلوقيا من هذه الجزيرة، وقال: إن الأزهار التي في هذه الجزيرة هي التي تيبس من الشمس، وتسقط على الأرض فتضربها الرياح، فتجتمع تلك الحجارة، وتصير إكسيرًا، فيأخذونها ويصنعون منها الذهب.
ثم إن بلوقيا نام في تلك الجزيرة إلى وقت الصباح، وعند طلوع الشمس دهن قدمَيْه من الماء الذي معه، ونزل البحر السادس، وسار ليالي وأيامًا حتى أقبل على جزيرة، فطلع عليها وتمشَّى فيها ساعة، فرأى فيها جبلين، وعليهما أشجار كثيرة، وثمار تلك الأشجار كرءوس الآدميين، وهي معلَّقة من شعورها، ورأى فيها أشجارًا أخرى أثمارها طيور خضر، مُعلَّقة من أرجلها، وفيها أشجار تتوقَّد مثل النار، ولها فواكه مثل الصبار، وكلُّ مَن سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها؛ ورأى بها فواكه تبكي، وفواكه تضحك، ورأى بلوقيا في تلك الجزيرة عجائب كثيرة. ثم إنه تمشى إلى شاطئ البحر، فرأى شجرة عظيمة، فجلس تحتها إلى وقت العشاء، فلما أظلم الظلام طلع فوق تلك الشجرة، وصار يتفكَّر في مصنوعات الله، فبينما هو كذلك وإذا بالبحر قد اختبط، وطلع منه بنات البحر، وفي يد كل واحدة منهن جوهرة تضيء مثل المصباح، وسرن حتى أتين تحت تلك الشجرة، وجلسن ولعبن، ورقصن وطربن، فصار بلوقيا يتفرج عليهن، وهن في هذه الحالة، ولم يزلن في لعب إلى الصباح، فلما أصبح نزلن البحر، فتعجب منهن بلوقيا، ونزل من فوق الشجرة، ودهن قدمَيْه من الماء الذي معه، ونزل البحر السابع وسار، ولم يزل سائرًا مدة شهرين وهو لا ينظر جبلًا ولا جزيرة، ولا برًّا ولا واديًا ولا ساحلًا، حتى قطع ذلك البحر، وقاسى فيه جوعًا عظيمًا، حتى صار يخطف السمك من البحر، ويأكله نيئًا من شدة جوعه.
ولم يزل سائرًا على هذه الحالة حتى انتهى إلى جزيرة أشجارها كثيرة، وأنهارها غزيرة، فطلع إلى تلك الجزيرة وصار يمشي فيها، ويتفرج يمينًا وشمالًا، وكان ذلك في وقت الضحى، وما زال يتمشى حتى أقبل على شجرة تفاح، فمد يده ليأكل من تلك الشجرة، وإذا بشخصٍ صاح عليه من تلك الشجرة، وقال له: إنْ تقرَّبت إلى هذه الشجرة، وأكلتَ منها شيئًا، قسمَتْك نصفين. فنظر بلوقيا إلى ذلك الشخص فرآه طويلًا، طوله أربعون ذراعًا بذراع أهل ذلك الزمان، فلما رآه بلوقيا خاف منه خوفًا شديدًا، وامتنع عن تلك الشجرة، ثم قال له بلوقيا: لأي شيء تمنعني من الأكل من هذه الشجرة؟ فقال له: لأنك ابن آدم، وأبوك آدم نسي عهد الله، فعصاه وأكل من الشجرة. فقال له بلوقيا: أي شيء أنت؟ ولمَن هذه الجزيرة وهذه والأشجار؟ وما اسمك؟ فقال له الشخص: أنا اسمي شراهيا، وهذه الأشجار والجزيرة للملك صخر، وأنا من أعوانه، وقد وكَّلَني على هذه الجزيرة. ثم إن شراهيا سأل بلوقيا وقال له: مَن أنت؟ ومن أين أتيتَ إلى هذه البلاد؟ فحكى له بلوقيا حكايته من الأول إلى الآخِر، فقال له شراهيا: لا تَخَفْ. ثم جاء له بشيء من الأكل، فأكل بلوقيا حتى اكتفى، ثم ودَّعَه وسار، ولم يزل سائرًا مدة عشرة أيام، فبينما هو سائر في جبال ورمال إذ نظر غبرة عاقدة في الجو، فقصد بلوقيا صوب تلك الغبرة، فسمع صياحًا وضربًا وهرجًا عظيمًا، فمشى بلوقيا نحو تلك الغبرة حتى وصل إلى وادٍ عظيم طوله مسيرة شهرين، ثم تأمَّلَ بلوقيا في جهة ذلك الصياح، فرأى ناسًا راكبين على خيل وهم يقتتلون مع بعضهم، وقد جرى الدم بينهم حتى صار مثل النهر، ولهم أصوات مثل الرعد، وفي أيديهم رماح وسيوف وأعمدة من الحديد، وقسي ونبال، وهم في قتال عظيم، فأخذه خوف شديد. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.