فلما كانت الليلة ٤٩٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بلوقيا طلع إلى الجزيرة، وتمشى فيها ساعة، فرأى شابًّا مليحًا، والنور يلوح من وجهه، فلما قرب منه بلوقيا رآه جالسًا بين قبرين مبنيَّيْن، وهو ينوح ويبكي، فأتى إليه بلوقيا وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام، ثم إن بلوقيا سأل الشاب، وقال له: ما شأنك؟ وما اسمك؟ وما هذان القبران المبنيان اللذان أنت جالس بينهما؟ وما هذا البكاء الذي أنت فيه؟ فالتفت الشاب إلى بلوقيا، وبكى بكاءً شديدًا حتى بلَّ ثيابَه من دموعه، وقال لبلوقيا: اعلم يا أخي أن حكايتي عجيبة، وقصتي غريبة، وأحب أن تجلس عندي حتى تحكي لي ما رأيتَ في عمرك، وما سبب مجيئك إلى هذا المكان، وما اسمك، وإلى أين رائح، وأحكي لك أنا الآخَر حكايتي. فجلس بلوقيا عند الشاب وأخبره بجميع ما وقع له في سياحته من الأول إلى الآخِر، وأخبره كيف مات والده وخلفه، وكيف فتح الخلوة ورأى فيها الصندوق، وكيف رأى الكتاب الذي فيه صفة محمد ﷺ، وكيف تعلَّقَ قلبه به، وطلع سائحًا في حبه، وأخبره بجميع ما وقع له إلى أن وصل إليه، ثم قال له: وهذه حكايتي بتمامها، والله أعلم، وما أدري بالذي يجري عليَّ بعد ذلك. فلما سمع الشاب كلامَه تنهَّدَ، وقال له: يا مسكين، أي شيء رأيتَ في عمرك؟ اعلم يا بلوقيا أني رأيتُ السيد سليمان في زمانه، ورأيتُ شيئًا لا يُعَدُّ ولا يُحصَى، وحكايتي عجيبة، وقصتي غريبة، وأريد منك أن تقعد عندي حتى أحكي لك حكايتي، وأخبرك بسبب قعودي هنا.
فلما سمع حاسب هذا الكلام من الحية تعجَّبَ، وقال: يا ملكة الحيات، بالله عليكِ أن تعتقيني، وتأمري أحد خدمك أن يُخرِجني إلى وجه الأرض، وأحلف لك يمينًا أنني لا أدخل الحمام طول عمري. فقالت: إن هذا الأمر لا يكون، ولا أصدقك في يمينك. فلما سمع منها ذلك بكى، وبكت الحيات جميعًا لأجله، وصارت تستشفع له عند الملكة، وتقول لها: نريد منك أن تأمري إحدانا أن تُخرِجه إلى وجه الأرض، ويحلف لك يمينًا أنه لن يدخل الحمام طول عمره. وكانت ملكة الحيات اسمها يمليخا، فلما سمعت يمليخا منهن ذلك الكلام أقبلت على حاسب وحلَّفته، فحلف لها، ثم أمرت حية أن تُخرِجه إلى وجه الأرض، فأتته وأرادت أن تُخرِجه، فلما أتت تلك الحية لتُخرِجه قال لملكة الحيات: أريد منك أن تحكي لي حكاية الشاب الذي قعد عنده بلوقيا، ورآه جالسًا بين القبرين. فقالت: اعلم يا حاسب أن بلوقيا جلس عند الشاب، وحكى له حكايته من أولها إلى آخِرها لأجل أن يحكي له الآخَر قصته، ويُخبِره بما جرى له في عمره، ويعرِّفه سببَ قعوده بين القبرين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.