فلما كانت الليلة ٥٠٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر ملك الطيور قال لجانشاه: واعلم أن السيد سليمان وكَّلني بهذا القصر، وعلَّمني منطق الطير، وجعلني حاكمًا على جميع الطير الذي في الدنيا، وفي كل سنة يأتي الطير إلى هذا القصر وننظره ويروح، وهذا سبب قعودي في المكان. فلما سمع جانشاه كلامَ الشيخ نصر بكى بكاءً شديدًا، وقال له: يا والدي، كيف تكون حيلتي حتى أروح إلى بلادي؟ فقال له الشيخ: اعلم يا ولدي أنك بالقرب من جبل قاف، وليس لك رواح من هذا المكان إلا إذا أتت الطيور، وأوصي عليك واحدًا منها فيوصلك إلى بلادك، فاقعد عندي في هذا المكان وكُلْ واشربْ، وتفرج في هذه المقاصير حتى تأتي الطيور. فقعد جانشاه عند الشيخ، وصار يدور في الوادي، ويأكل من تلك الفواكه، ويتفرج ويضحك ويلعب، ولم يزل مُقِيمًا في ألذ عيش مدةً من الزمان حتى قرب مجيء الطيور من أماكنها لزيارة الشيخ نصر؛ فلما علم الشيخ نصر بمجيء الطيور قام على قدمَيْه، وقال لجانشاه: يا جانشاه، خذ هذه المفاتيح، وافتح المقاصير التي في هذا القصر، وتفرَّج على ما فيها إلا المقصورة الفلانية، فاحذر أن تفتحها، ومتى خالفتني وفتحتها ودخلتها لا يحصل لك خير أبدًا. وأوصى جانشاه بهذه الوصية، وأكَّدَ عليه فيها، وسار من عنده لملاقاة الطيور، فلما نظرَتِ الطيور الشيخ نصر أقبلَتْ عليه، وقبَّلَتْ يدَيْه جنسًا بعد جنس.
هذا ما كان من أمر الشيخ نصر، وأما ما كان من أمر جانشاه، فإنه قام على قدميه، وصار دائرًا يتفرج على القصر يمينًا وشمالًا، وفتح جميع المقاصر التي في القصر، حتى وصل إلى المقصورة التي حذَّره الشيخ نصر من فتحها؛ فنظر إلى باب تلك المقصورة فأعجبه ورأى عليه قفلًا من الذهب، فقال في نفسه: إن هذه المقصورة أحسن من جميع المقاصير التي في القصر، يا تُرَى ما يكون في هذه المقصورة حتى منعني الشيخ نصر من الدخول فيها؟ فلا بد لي من أن أدخل هذه المقصورة، وأنظر الذي فيها، وما كان مقدَّرًا على العبد لا بد أن يستوفيه. ثم مدَّ يده وفتح المقصورة ودخلها، فرأى فيها بحيرة عظيمة، وبجانب البحيرة قصر صغير، وهو مبني من الذهب والفضة والبلور، وشبابيكه من الياقوت، ورخامه من الزبرجد الأخضر والبلخش والزمرد والجواهر مرصَّعة في الأرض على هيئة الرخام، وفي وسط ذلك القصر فسقية من الذهب ملآنة بالماء، وحول تلك الفسقية وحوش وطيور مصنوعة من الذهب والفضة، يخرج من بطونها الماء، وإذا هبَّ النسيم يدخل في آذانها فتصفِّر كل صورة بلغتها، وبجانب الفسقية إيوان عظيم، وعليه تخت عظيم من الياقوت مرصَّع بالدر والجواهر، وعلى ذلك التخت خيمة منصوبة من الحرير الأخضر، مزركشة بالفصوص والمعادن الفاخرة، ومقدار سعتها خمسون ذراعًا، وداخل تلك الخيمة مخدع فيه البساط الذي كان للسيد سليمان عليه السلام. ورأى جانشاه حول ذلك القصر بستانًا عظيمًا، وفيه أشجار وأثمار وأنهار، وفي دائر القصر مزارع من الورد والريحان والنسرين، ومن كل مشموم، وإذا هبَّتِ الرياح على الأشجار تمايلت تلك الأغصان، ورأى جانشاه في ذلك البستان من جميع الأشجار رطبًا ويابسًا، وكل ذلك في تلك المقصورة، فلما رأى جانشاه هذا الأمر تعجَّبَ منه غاية العجب، وصار يتفرَّج في ذلك البستان وفي ذلك القصر على ما فيهما من العجائب والغرائب، ونظر إلى البحيرة فرأى حصاها من الفصوص النفيسة، والجواهر الثمينة، والمعادن الفاخرة، ورأى في تلك المقصورة شيئًا كثيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.