فلما كانت الليلة ٣٢٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت: قبلنا عذرك. ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف، اسقيه شربة بالكوز الذهب. فجاءتني بكوز من الذهب الأحمر مرصَّع بالدُّر والجوهر، ملآن ماءً ممزوجًا بالمسك الأذفر، وهو مغطًّى بمنديل من الحرير الأخضر، فجعلتُ أشرب وأطيل في شربي، وأنا سارق النظر إليها حتى طال وقوفي، ثم رددتُ الكوز على الجارية ووقفت، فقالت: يا شيخ، امضِ إلى حال سبيلك. فقلت لها: يا سيدتي، أنا مشغول الفكر. فقالت: في ماذا؟ فقلت: في تقلُّب الزمان، وتصرُّف الحدثان. قالت: يحقُّ لك؛ لأن الزمان ذو عجائب، ولكن ما الذي رأيت من عجائبه حتى تفكِّر فيه؟ فقلت لها: أفكر في صاحب هذه الدار؛ لأنه كان صديقي في حال حياته. فقالت لي: ما اسمه؟ فقلت: محمد بن علي الجوهري، وكان ذا مال جزيل، فهل خلَّف أولادًا؟ قالت: نعم، خلَّف بنتًا يقال لها بدور، وقد ورثت أمواله جميعها. فقلت لها: كأنك ابنته. قالت: نعم. وضحكت، ثم قالت: يا شيخ، قد أطلت الخطاب فاذهب إلى حال سبيلك. فقلت لها: لا بد من الذهاب، ولكني أرى محاسنك متغيِّرة، فأخبريني بشأنك لعل الله يجعل لك على يديَّ فرجًا. فقالت لي: يا شيخ، إن كنتَ من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا، فأخبرني مَن أنت حتى أعرف هل أنت محلٌّ للسر أم لا، فقد قال الشاعر:
فقلت لها: يا سيدتي، كأن قصدك أن تعلمي مَن أنا، فأنا علي بن منصور الخليعي الدمشقي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد. فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلَّمت عليَّ، وقالت لي: مرحبًا بك يا ابن منصور، الآن أخبرك بحالي وأستأمنك على سري، أنا عاشقة مفارقة. فقلت لها: يا سيدتي، أنت مليحة وما تعشقين إلا كل مليح، فمَن الذي تعشقينه؟ قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان. وقد وصفَتْ لي شابًّا لم يكن بالبصرة أحسن منه، فقلت لها: يا سيدتي، هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم، إلا أنه قد عشقَنَا عشقًا باللسان، لا بالقلب والجنان؛ لأنه لم يَفِ بوعد، ولم يحافظ على عهد. فقلت لها: يا سيدتي، وما سبب الفراق بينكما؟ قالت: سببه أني كنت يومًا جالسة، وجاريتي هذه تسرِّح شعري، فلما فرغتْ من تسريحه جدلت ذوائبي فأعجبها حُسْني وجمالي، فطأطأت عليَّ وقبَّلَتْ خدي، وكان في ذلك الوقت داخلًا عليَّ فرأى ذلك، فلما رأى الجارية تقبِّل خدي ولَّى من وقته غضبان، عازمًا على دوام البَيْن، وأنشد هذين البيتين:
ومن حين ولَّى معرضًا عني إلى الآن لم يأتنا من عنده كتاب ولا جواب يا ابن منصور. فقلت لها: فما تريدين؟ قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتابًا، فإن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار، وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيك مائة دينار. فقلت لها: افعلي ما بَدَا لكِ. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم نادت بعض جواريها وقالت: ائتيني بدواة وقرطاس. فأتتها بدواة وقرطاس، فكتبت هذه الأبيات:
ثم بعد ذلك ختمَتِ الكتابَ وناولتني إياه، فأخذتُه ومضيت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدته في الصيد، فجلست أنتظره، فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد، فلما رأيته يا أمير المؤمنين على فرسه ذهل عقلي من حسنه وجماله، فالتفت فرآني جالسًا بباب داره، فلما رآني نزل عن جواده وأتى إليَّ واعتنقني وسلَّم عليَّ؛ فخُيِّلَ لي أني اعتنقت الدنيا وما فيها، ثم دخل بي إلى داره، وأجلسني على فراشه، وأمر بتقديم المائدة، فقدموا مائدة من الخولنج الخراساني، وقوائمها من الذهب، عليها جميع الأطعمة وأنواع اللحم من مقلي ومشوي وما أشبه ذلك، فلما جلست على المائدة، أمعنتُ إليها الالتفات، فوجدت مكتوبًا عليها هذه الأبيات … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.