فلما كانت الليلة ٥١١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ نصر قال لجانشاه: احفظ ثياب التي تريدها، ولا تعطها إياها حتى أرجع من ملاقاة الطيور، وهذا الذي أقدر عليه يا ولدي لا غير. فلما سمع جانشاه كلام الشيخ نصر اطمأنَّ قلبه، وقعد عنده إلى ثاني عام، وصار يعدُّ الماضي من الأيام التي تأتي الطيور عقبها؛ فلما جاء ميعاد مجيء الطيور أتى الشيخ نصر إلى جانشاه، وقال له: اعمل بالوصية التي أوصيتُك بها من أمر ثياب البنات، فإنني ذاهب إلى ملاقاة الطيور. فقال جانشاه: سمعًا وطاعةً لأمرك يا والدي. ثم ذهب الشيخ نصر إلى ملاقاة الطيور، وبعد ذهابه قام جانشاه وتمشَّى حتى دخل البستان، واختفى تحت شجرة بحيث لا يراه أحد، وقعد أول يوم وثاني يوم وثالث يوم فلم تأتِ إليه البنات، فقلق وصار في بكاء وأنين ناشئ عن قلب حزين، ولم يزل يبكي حتى أُغمِي عليه، ثم بعد ساعة أفاق وجعل ينظر تارةً إلى السماء، وتارةً ينظر إلى الأرض، وتارةً ينظر إلى البحيرة، وتارةً ينظر إلى البر، وقلبه يرتجف من شدة العشق. فبينما هو على هذه الحالة إذ أقبل عليه من الجو ثلاثة طيور في صفة الحمام، ولكن كل حمامة قدر النسر، ثم إنهن نزلن بجانب البحيرة، وتلفَّتْنَ يمينًا وشمالًا فلم يرين أحدًا من الإنس، ولا من الجن، فنزعن ثيابهن ونزلن البحيرة، وصرن يلعبن ويضحكن وينشرحن، وهن عرايا كسبائك الفضة، ثم إن الكبيرة فيهن قالت لهن: أخشى يا أخواتي أن يكون أحد مختفيًا لنا في هذا القصر. فقالت الوسطى منهن: يا أختي، إن هذا القصر من عهد سليمان، ما دخله إنس ولا جان. فقالت الصغيرة منهن وهي تضحك: والله يا أخواتي إن كان أحدٌ مختفيًا في هذا المكان، فإنه لا يأخذ إلا أنا.
ثم إنهن لعبن وضحكن، وقلب جانشاه يرتجف من فرط الغرام، وهو مختفٍ تحت الشجرة ينظرهن، وهنَّ لا ينظرنه، ثم إنهن سبحن في الماء حتى وصلن إلى وسط البحيرة، وبعدن عن ثيابهن، فقام جانشاه على قدمَيْه وهو يجري كالبرق الخاطف، وأخذ ثياب البنت الصغيرة، وهي التي تعلَّقَ قلبه بها، وكان اسمها شمسة، فلما التفتَتْ رأت جانشاه، فارتجفت قلوبهن، واستترن منه بالماء، وأتين إلى قرب البر، ثم نظرن إلى وجه جانشاه، فرأينه كأنه البدر في ليلة تمامه، فقلن له: مَن أنت؟ وكيف أتيت إلى هذا المكان وأخذت ثياب السيدة شمسة؟ فقال لهن: تعالَيْنَ عندي حتى أحكي لَكُنَّ ما جرى لي. فقالت السيدة شمسة: ما خبرك؟ ولأي شيء أخذت ثيابي؟ وكيف عرفتني من دون أخواتي؟ فقال لها جانشاه: يا نور عيني، اطلعي من الماء حتى أحكي لك حكايتي، وأخبرك بما جرى لي، وأعلمك بسبب معرفتي بك. فقالت له: يا سيدي، وقرة عيني، وثمرة فؤادي، أَعْطِني ثيابي حتى ألبسها وأستتر بها، وأطلع عندك. فقال لي جانشاه: يا سيدة الملاح، ما يمكن أن أعطيك ثيابك، وأقتل نفسي من الغرام، فلا أعطيك ثيابك إلا إذا أتى الشيخ نصر ملك الطيور. فلما سمعت السيدة شمسة كلامَ جانشاه قالت له: إنْ كنتَ لا تعطيني ثيابي، فتأخَّرْ عنَّا قليلًا حتى تطلع أخواتي إلى البر، ويلبسن ثيابهن، ويعطينني شيئًا أستتر به. فقال لها جانشاه: سمعًا وطاعةً. ثم تمشَّى من عندهن إلى القصر ودخله، فطلعت السيدة شمسة هي وأخواتها إلى البر، ولبسن ثيابهن.
ثم إن أخت السيدة شمسة الكبيرة أعطتها ثوبًا من ثيابها لا يمكنها الطيران به، وألبستها إياه، ثم قامت السيدة شمسة وهي كالبدر الطالع، والغزال الراتع، وتمشَّتْ حتى وصلت إلى جانشاه، فرأته جالسًا فوق التخت، فسلَّمَتْ عليه، وجلست قريبًا منه، وقالت له: يا مليح الوجه، أنت الذي قتلتني وقتلت نفسك، ولكن أخبرنا بما جرى لك حتى ننظر ما خبرك. فلما سمع جانشاه كلام السيدة شمسة، بكى حتى بلَّ ثيابه من دموعه، فلما علمت أنه مُغرَم بحبها قامت على قدمَيْها، وأخذته من يده وأجلسته بجانبها، ومسحت دموعه بكمها، وقالت له: يا مليح الوجه، دَعْ عنك هذا البكاء، واحكِ لي ما جرى لك. فحكى لها جانشاه ما جرى له، وأخبرها بما رآه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.