فلما كانت الليلة ٥٢٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك شماخ قال لجانشاه: ولا بد من أن أرسلك إلى الراهب مع طير عظيم له أربعة أجنحة. ثم ركَّبَه على ظهر طير عظيم له أربعة أجنحة، طول كل جناح منها ثلاثون ذراعًا بالهاشمي، وله أرجل مثل أرجل الفيل، لكنه لا يطير في السنة إلا مرتين، وكان عند الملك شماخ عون يقال له طمشون، كل يوم يختطف لهذا الطير بخنيتين من بلاد العراق، ويفسخهما له ليأكلهما، فلما ركب جانشاه على ظهر ذلك الطير، أمره شماخ أن يوصله إلى الراهب يغموس. فأخذه على ظهره، وسار به ليالي وأيامًا حتى وصل إلى جبل القلع ودير الماس، فنزل جانشاه عند ذلك الدير، فرأى يغموس الراهب داخل الكنيسة وهو يتعبَّد فيها، فتقدَّمَ جانشاه إليه، وقبَّلَ الأرض، ووقف بين يدَيْه، فلما رآه الراهب قال له: مرحبًا بك يا ولدي، يا غريب الديار، وبعيد المزار، أخبرني ما سبب مجيئك هذا المكان. فبكى جانشاه، وحكى له حكايته من الأول إلى الآخِر؛ فلما سمع الراهب الحكايةَ تعجَّبَ منها غاية العجب، وقال له: والله يا ولدي عمري ما سمعتُ بهذه القلعة، ولا رأيتُ مَن سمع بها أو رآها، مع أني كنتُ موجودًا على عهد نوح نبي الله، وحكمتُ من عهد نوح إلى زمن السيد سليمان بن داود على الوحوش والطيور والجن، وما أظن أن سليمان سمع بهذه القلعة، ولكن اصبر يا ولدي حتى تأتي الطيور والوحوش، وعون الجان، وأسألهم لعل أحدًا منهم يخبرنا بها، ويأتينا بخبرٍ عنها، ويهوِّن الله تعالى عليك.
فقعد جانشاه مدة من الزمان عند الراهب، فبينما هو قاعد إذ أقبلت عليه الطيور والوحوش والجان أجمعون، وصار جانشاه والراهب يسألونهم عن قلعة جوهر تكني، فما أحد منهم قال أنا رأيتها أو سمعت بها، بل كان كل منهم يقول: لا رأيت هذه القلعة، ولا سمعت بها. فصار جانشاه يبكي وينوح ويتضرَّع إلى الله تعالى، وبينما هو كذلك إذا بطير قد أقبَلَ آخِر الطيور، وهو أسود اللون، عظيم الخلقة، ولما نزل من أعلى الجو جاء وقبَّلَ يدَيِ الراهب، فسأله الراهب عن قلعة جوهر تكني، فقال له الطير: أيها الراهب، إننا كنَّا ساكنين خلف قاف بجبل البلور في برٍّ عظيم، وكنتُ أنا وإخوتي فراخًا صغارًا، وأبي وأمي كانا يسرحان في كل يوم يجيئان برزقنا، فاتفق أنهما سرحا يومًا من الأيام، وغابا عنَّا سبعة أيام، فاشتدَّ علينا الجوع، ثم أتيا في اليوم الثامن وهما يبكيان، فقلنا لهما: ما سبب غيابكما عنَّا؟ فقالا: إنه خرج علينا مارد فخطفنا، وذهب بنا إلى قلعة جوهر تكني، وأوصلنا إلى الملك شهلان، فلما رآنا الملك شهلان أراد قتلنا، فقلنا له: إن وراءنا فراخًا صغارًا، فأعتقنا من القتل. ولو كان أبي وأمي في قيد الحياة لَكانا أخبراكم عن القلعة. فلما سمع جانشاه هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا، وقال للراهب: أريد منك أن تأمر هذا الطير أن يوصلني إلى نحو وكر أبيه وأمه في جبل البلور خلف جبل قاف. فقال الراهب للطير: أيها الطير، أريد منك أن تطيع هذا الولد في جميع ما يأمرك به. فقال الطير للراهب: سمعًا وطاعةً لما تقول. ثم إن ذلك الطير أركب جانشاه على ظهره وطار، ولم يزل طائرًا به أيامًا وليالي حتى أقبَلَ على جبل البلور، ثم نزل به هناك، ومكث برهة من الزمان، ثم أركبه على ظهره وطار، ولم يزل طائرًا به مدة يومين حتى وصل إلى الأرض التي فيها الوكر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.