فلما كانت الليلة ٥٣٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بلوقيا لما أوصله الخضر عليه السلام إلى باب منزله، فتح عينيه ليودعه فلم يجده، فدخل بيته، فلما رأته أمه صاحت صيحة عظيمة، ووقعت مغشية عليها من شدة الفرح، فرشُّوا وجهها بالماء حتى أفاقت، فلما أفاقت عانقَتْه، وبكت بكاءً شديدًا، وصار بلوقيا يبكي وتارةً يضحك، وأتاه أهله وجماعته، وجميع أصحابه، وصاروا يهنونه بالسلامة، وشاعت الأخبار في البلاد، وجاءته الهدايا من جميع الأقطار، ودقت الطبول، وزمرت الزمور، وفرحوا فرحًا شديدًا، ثم بعد ذلك حكى لهم بلوقيا حكايته، وأخبرهم بجميع ما جرى له، وكيف أتى به الخضر، وأوصله إلى باب منزله، فتعجَّبوا من ذلك، وبكوا حتى ملُّوا من البكاء.
وكل هذا تحكيه ملكة الحيات لحاسب كريم الدين، فتعجب حاسب كريم الدين من ذلك، وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال لملكة الحيات: إني أريد الذهاب إلى بلادي. فقالت له ملكة الحيات: إني أخاف يا حاسب إذا وصلتَ إلى بلادك أن تنقض العهد، وتحنث في اليمين الذي حلفتَه، وتدخل الحمام. فحلف أيمانًا أخرى وثيقة أنه لن يدخل الحمام طول عمره، فأمرت حيةً وقالت لها: أَخْرِجي حاسب كريم الدين إلى وجه الأرض. فأخذته الحية، وسارت به من مكان إلى مكان حتى أخرجته على وجه الأرض من سطح جب مهجور، ثم مشى حتى وصل إلى المدينة، وتوجَّهَ إلى منزله، وكان ذلك آخِر النهار وقتَ اصفرار الشمس؛ ثم طرق الباب فخرجت أمه، وفتحت الباب، فرأت ابنها واقفًا، فلما رأته صاحت من شدة فرحتها، وألقت نفسها عليه وبكت، فلما سمعت زوجته بكاها خرجت إليها، فرأت زوجها فسلَّمَتْ عليه، وقبَّلَتْ يدَيْه، وفرح بعضهم ببعض فرحًا عظيمًا، ودخلوا البيت، فلما استقرَّ بهم الجلوس وقعد بين أهله، سأل عن الحطابين الذين كانوا يحطبون معه، وراحوا وخلوه في الجب، فقالت له أمه: إنهم أتوني وقالوا لي: إن ابنك أكله الذئب في الوادي. وقد صاروا تجارًا، وأصحاب أملاك ودكاكين، واتسعت عليهم الدنيا، وهم في كل يوم يجيئوننا بالأكل والشرب، وهذا دأبهم إلى الآن. فقال لأمه: في غدٍ روحي إليهم، وقولي لهم: قد جاء حاسب كريم الدين من سفره، فتعالوا وقابِلوه وسلِّموا عليه. فلما أصبح الصباح راحت أمه إلى بيوت الحطابين، وقالت لهم ما وصَّاها به ابنها، فلما سمع الحطابون ذلك الكلامَ تغيَّرَتْ ألوانهم، وقالوا لها: سمعًا وطاعةً. وقد أعطاها كل واحد منهم بدلة من الحرير مطرزة بالذهب، وقالوا لها: أعطِ ولدَكِ هذه ليلبسها، وقولي له: إنهم في غدٍ يأتون عندك. فقالت لهم: سمعًا وطاعة. ثم رجعت من عندهم إلى ابنها، وأعلمته بذلك، وأعطته الذي أعطوها إياه.
هذا ما كان من أمر حاسب كريم الدين وأمه، وأما ما كان من أمر الحطابين، فإنهم جمعوا جماعة من التجار، وأعلموهم بما حصل منهم في حق حاسب كريم الدين، وقالوا لهم: كيف نصنع معه الآن؟ فقال لهم التجار: ينبغي لكلٍّ منكم أن يعطيه نصف ماله ومماليكه. فاتفق الجميع على هذا الرأي، وكل واحد أخذ نصف ماله معه، وذهبوا إليه جميعًا، وسلَّموا عليه وقبَّلوا يدَيْه، وأعطوه ذلك وقالوا له: هذا من بعض إحسانك، وقد صرنا بين يدَيْك. فقبله منهم وقال لهم: قد راح الذي راح، وهذا مقدور من الله تعالى، والمقدور يغلب المحذور. فقالوا له: قُمْ بنا نتفرج في المدينة، وندخل الحمام. فقال لهم: أنا قد صدر مني يمين أنني لا أدخل الحمام طول عمري. فقالوا: قم بنا لبيوتنا حتى نضيفك. فقال لهم: سمعًا وطاعةً. ثم قام وراح معهم إلى بيوتهم، وصار كل واحد منهم يضيفه ليلة، ولم يزالوا على هذه الحالة مدة سبع ليالٍ، وقد صار صاحبَ أموالٍ وأملاك ودكاكين، واجتمع به تجار المدينة، فأخبرهم بجميع ما جرى له وما رآه، وصار من أعيان التجار، ومكث على هذا الحال مدةً من الزمان.
فاتفق أنه خرج في يومٍ من الأيام يتمشَّى في المدينة، فرآه صاحب حمَّامي، وهو جائز على باب الحمام، ووقعت العين على العين، فسلَّمَ عليه وعانَقَه، وقال له: تفضَّلْ عليَّ بدخول الحمام، وتكيَّسَ حتى أعمل لك ضيافة. فقال له: إنه صدر مني يمين أنني لا أدخل الحمام مدة عمري. فحلف الحمامي وقال له: نسائي الثلاث طالقات ثلاثًا إنْ لم تدخل معي الحمام وتغتسل فيه. فتحيَّرَ حاسب كريم الدين في نفسه، وقال: أتريد يا أخي أنك تيتِّم أولادي وتخرب بيتي، وتجعل الخطيئة في رقبتي. فارتمى الحمامي على رجل حاسب كريم الدين وقبَّلَها، وقال له: أنا في جيرتك أن تدخل معي الحمام، وتكون الخطيئة في رقبتي أنا. واجتمع عَمَلة الحمام، وكلُّ مَن فيه على حاسب كريم الدين، وتداخلوا عليه، ونزعوا عنه ثيابه، وأدخلوه الحمام، فبمجرد ما دخل الحمام وقعد بجانب الحائط، وسكب على رأسه من الماء، أقبل عليه عشرون رجلًا، وقالوا له: قُمْ أيها الرجل من عندنا، فإنك غريم السلطان. وأرسلوا واحدًا منهم إلى وزير السلطان، فراح الرجل وأعلَمَ الوزير، فركب الوزير وركب معه ستون مملوكًا، وساروا حتى أتوا الحمام، واجتمعوا بحاسب كريم الدين، وسلَّمَ عليه الوزير ورحَّبَ به، وأعطى الحمامي مائة دينار، وأمر أن يقدِّموا لحاسب حصانًا ليركبه، ثم ركب الوزير وحاسب، وكذلك جماعة الوزير وأخذوه معهم، وساروا به حتى وصلوا إلى قصر السلطان، فنزل الوزير ومَن معه، ونزل حاسب، وجلسوا في القصر، وأتوا بالسماط فأكلوا وشربوا، ثم غسلوا أيديهم، وخلع عليه الوزير خلعتين، كل واحدة تساوي خمسة آلاف دينار، وقال له: اعلم أن الله قد مَنَّ علينا بك، ورحمنا بمجيئك، فإن السلطان كان أشرف على الموت من الجذام الذي به، وقد دلَّتْ عندنا الكتبُ على أن حياته على يدَيْك.
فتعجَّبَ حاسب من أمرهم، ثم تمشَّى الوزير وحاسب وخواص الدولة من أبواب القصر السبعة إلى أن دخلوا على الملك، وكان يقال له الملك كرزدان ملك العجم، وقد ملك الأقاليم السبعة، وكان في خدمته مائة سلطان يجلسون على كراسي من الذهب الأحمر، وعشرة آلاف بهلوان، كل بهلوان تحت يده مائة نائب ومائة جلَّاد، وبأيديهم السيوف والأطبار، فوجدوا ذلك الملك نائمًا، ووجهه ملفوف في منديل، وهو يئنُّ من الأمراض، فلما رأى حاسب هذا الترتيب دهش عقله من هيئة الملك كرزدان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، ودعا له، ثم أقبل عليه وزيره الأعظم، وكان يقال له الوزير شمهور، ورحَّبَ به وأجلسه على كرسي عظيم عن يمين الملك كرزدان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.