فلما كانت الليلة ٥٣٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملكة الحيات أوصت حاسب كريم الدين بعدم الشرب من الرغوة الأولى، والمحافظة على الرغوة الثانية، وقالت له: إذا رجع الوزير من عند الملك وطلب منك القنينة الثانية فأَعْطِه الأولى، وانظر ما يجري له، ثم بعد ذلك اشرب أنت الثانية، فإذا شربتها يصير قلبك بيت الحكمة، ثم بعد ذلك أطلع اللحم، وحطه في صينية من النحاس، وأعْطِ الملك إياه ليأكله، فإذا أكله واستقرَّ في بطنه، استر وجهه بمنديل واصبر عليه إلى وقت الظهر حتى تبرد بطنه، وبعد ذلك اسقه شيئًا من الشراب، فإنه يعود صحيحًا كما كان، ويبرأ من مرضه بقوة الله تعالى، واسمع هذه الوصية التي وصيتك بها، وحافِظْ عليها كلَّ المحافظة.
وما زالوا سائرين حتى أقبلوا على بيت الوزير، فقال الوزير لحاسب: ادخل معي البيت. فلما دخل الوزير وحاسب، وتفرَّقَ العساكر، وراح كلٌّ منهم إلى حال سبيله، وضَعَ حاسب الصينية التي فيها ملكة الحيات من فوق رأسه، ثم قال له الوزير: اذبح ملكة الحيات. فقال له حاسب: أنا لا أعرف الذبح، وعمري ما ذبحتُ شيئًا، فإنْ كان لك غرض في ذبحها، فاذبحها أنت بيدك. فقام الوزير شمهور وأخذ ملكة الحيات من الصينية التي هي فيها وذبحها، فلما رأى حاسب ذلك بكى بكاءً شديدًا، فضحك شمهور منه، وقال له: يا ذاهب العقل، كيف تبكي من أجل ذبح حية؟ وبعد أن ذبحها الوزير قطَّعها ثلاث قطع، ووضعها في قدر من النحاس، ووضع القدر على النار، وجلس ينتظر نضج لحمها. فبينما هو جالس، إذا بمملوك أقبل عليه من عند الملك وقال له: إن الملك يطلبك في هذه الساعة. فقال له الوزبر: سمعًا وطاعةً. ثم قام وأحضر قنينتين لحاسب، وقال له: أوقد النار على هذا القدر حتى تخرج رغوة اللحم الأولى، فإذا خرجَتْ فاكشطها من فوق اللحم، وحطها في إحدى هاتين القنينتين، واصبر عليها حتى تبرد واشربها أنت، فإذا شربتها صحَّ جسمك، ولا يبقى في جسدك وجع ولا مرض، وإذا طلعت الرغوة الثانية فضعها في القنينة الأخرى، واحفظها عندك حتى أرجع من عند الملك وأشربها؛ لأن في صلبي وجعًا عساه يبرأ إذا شربتُها. ثم توجَّهَ إلى الملك بعد أن أكَّدَ على حاسب في تلك الوصية، فصار حاسب يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة الأولى، فكشطها وحطها في قنينة من الاثنتين، ووضعها عنده، ولم يزل يوقد النار تحت القدر حتى طلعت الرغوة الثانية، فكشطها وحطها في القنينة الأخرى، وحفظها عنده، ولما استوى اللحم أنزل القدر من فوق النار، وقعد ينتظر الوزير، فلما أقبل الوزير من عند الملك قال لحاسب: أي شيء فعلتَ؟ فقال له حاسب: قد انقضى الشغل. فقال له الوزير: ما فعلتَ في القنينة الأولى؟ قال له: شربتُ ما فيها في هذا الوقت. فقال له الوزير: أرى جسدك لم يتغيَّر منه شيء. فقال له حاسب: إن جسدي من فوقي إلى قدمي أحس منه بأنه يشتعل مثل النار. فكتم الماكر الوزير شمهور الأمر عن حاسب خداعًا، ثم إنه قال له: هات القنينة الثانية لأشرب ما فيها لعلي أشفى وأبرأ من هذا المرض الذي في صلبي. ثم إنه شرب ما في القنينة الأولى وهو يظن أنها الثانية، فلم يتم شربها حتى سقطت من يده، وتورَّمَ من ساعته، وصحَّ فيه قول صاحب المثل: مَن حفر بئرًا لأخيه وقع فيه.
فلما رأى حاسب ذلك الأمر تعجَّبَ منه، وصار خائفًا من شرب القنينة الثانية، ثم تفكَّرَ وصية الحية، وقال في نفسه: لو كان ما في القنينة الثانية مضرًّا ما كان الوزير استخارها لنفسه. ثم إنه قال: توكَّلْتُ على الله تعالى. وشرب ما فيها، ولما شرب فجَّرَ الله تعالى في قلبه ينابيع الحكمة، وفتح له عين العلم، وحصل على الفرح والسرور، وأخذ اللحم الذي كان في القدر، ووضعه في صينية من نحاس، وخرج به من بيت الوزير، ورفع رأسه إلى السماء، فرأى السموات السبع وما فيهن إلى سدرة المنتهى، ورأى كيفية دوران الفلك، وكشف الله له عن جميع ذلك، ورأى النجوم السيَّارة والثوابت، وعلم كيفية الكواكب، وشاهَدَ هيئة البر والبحر، واستنبط من ذلك علم الهندسة، وعلم التنجيم، وعلم الهيئة، وعلم الفلك، وعلم الحساب، وما يتعلَّق بذلك كله، وعرف ما يترتَّب على الكسوف والخسوف، وغير ذلك؛ ثم نظر إلى الأرض فعرف ما فيها من المعادن والنبات والأشجار، وعلم جميع ما لها من الخواص والمنافع، واستنبط من ذلك علم الطب، وعلم السيمياء، وعلم الكيمياء، وعرف صنعة الذهب والفضة، ولم يزل سائرًا بذلك اللحم حتى وصل إلى قصر الملك كرزدان، ودخل عليه، وقبَّلَ الأرض بين يدَيْه، وقال له: تسلم رأسك في وزيرك شمهور. فاغتاظ الملك غيظًا شديدًا بسبب موت وزيره، وبكى بكاءً شديدًا، وبكت عليه الوزراء والأمراء وأكابر الدولة.
ثم بعد ذلك قال الملك كرزدان: إن الوزير شمهور كان عندي في هذا الوقت وهو في غاية الصحة، ثم ذهب ليأتيني باللحم إن كان طاب طبخه، فما سبب موته في هذه الساعة؟ وأي شيء عرض له من العوارض؟ فحكى حاسب للملك جميع ما جرى لوزيره، من أنه شرب القنينة، وتورَّمَ وانتفخ بطنه ومات؛ فحزن عليه الملك حزنًا شديدًا، ثم قال لحاسب: كيف حالي بعد شمهور؟ فقال حاسب: لا تحمل همًّا يا ملك الزمان، فأنا أداويك في ثلاثة أيام، ولا أترك في جسمك شيئًا من الأمراض. فانشرح صدر الملك كرزدان، وقال لحاسب: أنا مرادي أن أعافى من هذا البلاء، ولو بعد مدة من السنين. فقام حاسب وأتى بالقدر وحطه قدام الملك، وأخذ قطعة من لحم ملكة الحيات، وأطعمها للملك كرزدان، وغطاه ونشر على وجهه منديلًا، وقعد عنده وأمره بالنوم؛ فنام من وقت الظهر إلى وقت المغرب حتى دارت قطعة اللحم في بطنه، ثم بعد ذلك أيقظه، وسقاه شيئًا من الشراب، وأمره بالنوم، فنام الليل إلى وقت الصبح، ولما طلع النهار فعل معه مثل ما فعل بالأمس حتى أطعمه القطع الثلاث على ثلاثة أيام، فقب جلد الملك، وانقشر جميعه؛ فعند ذلك عرق الملك حتى جرى العرق من رأسه إلى قدمه وتعافى، وما بقي في جسده شيء من الأمراض. وبعد ذلك قال له حاسب: لا بد من دخول الحمام. ثم أدخله الحمام، وغسل جسده، وأخرجه فصار جسمه مثل قضيب الفضة، وعاد لما كان عليه من الصحة، ورُدَّتْ له العافية أحسن ما كانت أولًا، ثم إنه لبس أحسن ملبوسه، وجلس على التخت، وأذن لحاسب كريم الدين في أن يجلس معه، فجلس بجانبه، ثم أمر الملك بمد السماط، فمُدَّ فأكلَا وغسلَا أيديهما، وبعد ذلك أمر أن يأتوا بالمشروب فأتوا بما طلب فشربا، ثم بعد ذلك أتى جميع الأمراء والوزراء والعسكر وأكابر الدولة وعظماء رعيته، وهنوه بالعافية والسلامة، ودقوا الطبول وزينوا المدينة من أجل سلامة الملك، ولما اجتمعوا عنده للتهنئة قال لهم الملك: يا معشر الوزراء والأمراء وأرباب الدولة، هذا حاسب كريم الدين داواني من مرضي، اعلموا أنني قد جعلته وزيرًا أعظم مكان الوزير شمهور. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.