فلما كانت الليلة ٣٣٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن منصور قال: فقلت له افعل ما
بدا لك. فنادى بعض جواريه وقال: ائتيني بدواة وقرطاس. فأتَتْه بما
طلبه، فكتب هذه الأبيات:
سَأَلْتُكُمُ بِاللهِ يَا سَادَتِي مَهْلَا
عَلَيَّ فَإِنَّ الْحُبَّ لَمْ يُبْقِ لِي
عَقْلَا
تَمَكَّنَ مِنِّي حُبُّكُمْ وَهَوَاكُمُ
فَأَلْبَسَنِي سَقْمًا وَأَوْرَثَنِي ذُلَّا
لَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ أَسْتَصْغِرُ
الْهَوَى
وَأَحْسَبُهُ يَا سَادَتِي هَيِّنًا سَهْلَا
فَلَمَّا أَرَانِي الْحُبُّ أَمْوَاجَ
بَحْرِهِ
رَجَعْتُ لِحُكْمِ اللهِ أُعْذِرُ مَنْ
يَبْلَى
فَإِنْ شِئْتُمُ الْإِسْعَادَ سَعْدِي
وِصَالُكُمْ
وَإِنْ شِئْتُمُ الْهِجْرَانَ فَلْتَذْكُرُوا
الْفَضْلَا
ثم ختم الكتاب وناولني إياه، فأخذته ومضيت به إلى دار بدور، وجعلت
أرفع الستر قليلًا قليلًا على العادة، وإذا أنا بعشر جوارٍ نُهَّاد
أبكارٍ كأنهن الأقمار، والسيدة بدور جالسة في وسطهن كأنها البدر في وسط
النجوم، أو الشمس إذا خلت عن الغيوم، وليس بها ألم ولا وجع. فبينما أنا
أنظر إليها وأتعجَّب من هذا الحال، إذ لاحت منها التفاتة إليَّ فرأتني
واقفًا بالباب، فقالت لي: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا ابن منصور، ادخل.
فدخلْتُ وسلَّمْتُ عليها وناولتها الورقة، فلما قرأتها وفهمت ما فيها
ضحكت، وقالت لي: يا بن منصور، ما كذب الشاعر حيث قال:
فَلَأَصْبِرَنَّ عَلَى هَوَاكَ تَجَلُّدًا
حَتَّى يَجِيءَ إِلَيَّ مِنْكَ رَسُولُ
يا ابن منصور، ها أنا أكتب لك جوابًا حتى يعطيك الذي وعدك به. فقلتُ
لها: جزاكِ الله خيرًا. فنادت بعض جواريها وقالت: ائتيني بدواة وقرطاس.
فلما أتتها بما طلبت كتبَتْ إليه هذه الأبيات:
مَا لِي وَفَيْتُ بِعَهْدِكُمْ فَغَدَرْتُمُو
وَأَرَيْتُمُونِي مُنْصِفًا فَظَلَمْتُمُو
بَادَيْتُمُونِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا
وَغَدَرْتُمُو وَالْغَدْرُ بَادٍ مِنْكُمُو
مَا زِلْتُ أَحْفَظُ فِي الْبَرِيَّةِ
عَهْدَكُمْ
وَأَصُونُ عِرْضَكُمُو وَأَحْلِفُ عَنْكُمُو
حَتَّى رَأَيْتُ بِنَاظِرِي مَا سَاءَنِي
وَسَمِعْتُ أَخْبَارَ الْقَبَايِحِ عَنْكُمُو
أَيَهُونُ قَدْرِي حِينَ أَرْفَعُ قَدْرَكُمْ
وَاللهِ لَوْ أَكْرَمْتُمُو كُرِّمْتُمُو
فَلَأَصْرِفَنَّ الْقَلْبَ عَنْكُمْ سَلْوَةً
وَلَأَنْفُضَنَّ يَدَيَّ يَأْسًا مِنْكُمُو
فقلت لها: والله يا سيدتي إنه ما بينه وبين الموت إلا حتى يقرأ هذه
الورقة. ثم مزَّقتُها وقلت لها: اكتبي إليه غير هذه الأبيات. فقالت:
سمعًا وطاعة. ثم إنها كتبت إليه هذه الأبيات:
أَنَا قَدْ سَلَوْتُ وَلَذَّ فِي طَرْفِي
الْكَرَى
وَسَمِعْتُ مِنْ قَوْلِ الْعَوَاذِلِ مَا
جَرَى
وَأَجَابَنِي قَلْبِي إِلَى سَلَوْانِكُمْ
وَرَأَتْ جُفُونِي بَعْدَكُمْ أَنْ تَسْهَرَا
كَذَبَ الَّذِي قَالَ الْبِعَادُ مَرَارَةٌ
مَا ذُقْتُ طَعْمَ الْبُعْدِ إِلَّا سُكَّرَا
قَدْ صِرْتُ أَكْرَهُ مَنْ يَمُرُّ
بِذِكْرِكُمْ
مُتَعَرِّضًا وَأَرَاهُ شَيْئًا مُنْكَرَا
هَا قَدْ سَلَوْتُكُمُو بِكُلِّ جَوَارِحِي
فَلْيَعْلَمِ الْوَاشِي وَيَدْرِي مَنْ دَرَى
فقلت لها: والله يا سيدتي إنه ما يقرأ هذه الأبيات إلا وتفارق روحه
جسده. فقالت لي: يا ابن منصور، قد بلغ بي الوَجْد إلى هذا الحد حتى
قلتُ ما قلتَ. فقلت لها: لو قلت أكثر من ذلك الحق لك، ولكن العفو من
شيم الكرام. فلما سمعت كلامي ترغرغت عيناها بالدموع، وكتبت إليه رقعة،
والله يا أمير المؤمنين ما في ديوانك مَن يُحسِن أن يكتب مثلها، وكتبت
فيها هذه الأبيات:
إِلَى كَمْ ذَا الدَّلَالِ وَذَا التَّجَنِّي
شَفَيْتَ وَحَقِّكَ الْحُسَّادَ مِنِّي
لَعَلِّي قَدْ أَسَأْتُ وَلَسْتُ أَدْرِي
فَقُلْ لِي مَا الَّذِي بُلِّغْتَ عَنِّي
مُرَادِي لَوْ وَضَعْتُكَ يَا حَبِيبِي
مَكَانَ النَّوْمِ مِنْ عَيْنِي وَجَفْنِي
وَكَيْفَ شَرِبْتَ كَأْسَ الْحُبِّ صِرْفًا
فَإِنْ تَرَنِي سَكِرْتُ فَلَا تَلُمْنِي
فلما فرغت من كتابة المكتوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.