فلما كانت الليلة ٣٣٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بدور لما فرغت من كتابة المكتوب وختمته، ناولتني إياه، فقلت لها: يا سيدتي، إن هذه الرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل. ثم أخذت المكتوب وخرجت، فنادتني بعدما خرجت من عندها وقالت لي: يا ابن منصور، قل له: إنها في هذه الليلة ضيفتك. ففرحتُ أنا بذلك فرحًا شديدًا، ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير، فلما دخلت عليه وجدتُ عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقرأها وفهم معناها؛ فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشيًّا عليه. فلما أفاق قال: يا ابن منصور، هل كتبَتْ هذه الرقعة بيدها، ولمستها بأناملها؟ قلت: يا سيدي، وهل الناس يكتبون بأرجلهم؟ فوالله يا أمير المؤمنين ما استتم كلامي أنا وإياه إلا وقد سمعنا شن خلاخلها في الدهليز وهي داخلة، فلما رآها قام على أقدامه كأنه لم يكن به ألمٌ قطُّ، وعانقها عناق اللام للألف، وزالت عنه علَّة الذي لا ينصرف، ثم جلس ولم تجلس هي، فقلت لها: يا سيدتي، لأي شيء لم تجلسي؟ قالت: يا ابن منصور، لا أجلس إلا بالشرط الذي بيننا. فقلتُ لها: وما ذلك الشرط الذي بينكما؟ قالت: إن العشاق لا يطَّلِع أحد على أسرارهم. ثم وضعَتْ فمها على أذنه وقالت له كلامًا سرًّا، فقال: سمعًا وطاعة. ثم نام جبير ووشوش بعض عبيده، فغاب العبد ساعة، ثم أتى ومعه قاضٍ وشاهدان، فقام جبير وأتى بكيس فيه مائة ألف دينار وقال: أيها القاضي، اعقد عقدي على هذه الصبية بهذا المبلغ. فقال لها القاضي: قولي رضيتُ بذلك. فقالت: رضيتُ بذلك. فعقدوا العقد ثم فتحَتِ الكيسَ وملأت يدها منه وأعطَتِ القاضي والشهود، ثم ناولَتْه بقية الكيس، فانصرف القاضي والشهود، وقعدتُ أنا وإياهما في بسط وانشراح إلى أن مضى من الليل أكثره، فقلت في نفسي: إنهما عاشقان، ومضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فأنا أقوم في هذه الساعة لأنام في مكان بعيد عنهما، وأتركهما يختليان ببعضهما. ثم قمتُ فتعلَّقت بأذيالي وقالت لي: ما الذي حدَّثَتْك به نفسُك؟ فقلت: ما هو كذا وكذا. فقالت: اجلس، وإذا أردنا انصرافك صرفناك. فجلست معهما إلى أن قرب الصبح، فقالت: يا ابن منصور، امضِ إلى تلك المقصورة لأننا فرشناها لك، وهي محل نومك. فقمت ونمت فيها إلى الصباح، فلما أصبحت جاءني غلام بطشت وإبريق فتوضأت وصلَّيت الصبح ثم جلست.
فبينما أنا جالس وإذا بجبير ومحبوبته خرجا من حمام في الدار، وكلٌّ منهما يعصر ذوائبه، فصبَّحت عليهما وهنَّأتهما بالسلامة وجمع الشمل، ثم قلت له: الذي أوله شرط آخره رضا. فقال لي: صدقت، وقد وجب لك الإكرام. ثم نادى خازن داره وقال له: ائتني بثلاثة آلاف دينار. فأتاه بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فقال لي: تفضَّلْ علينا بقبول هذا. فقلت له: لا أقبله حتى تحكي لي ما سبب انتقال المحبة منها إليك بعد ذلك الصد العظيم. قال: سمعًا وطاعة. اعلم أن عندنا عيدًا يقال له عيد النواريز، يخرج الناس فيه وينزلون في الزوارق ويتفرجون في البحر، فخرجت أتفرَّج أنا وأصحابي، فرأيت زورقًا فيه عشر جوارٍ كأنهن الأقمار، والسيدة بدور هذه في وسطهن وعودها معها؛ فضربت عليه إحدى عشرة طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذين البيتين:
فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة. فما رضيت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.