فلما كانت الليلة ٣٣٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية لما فرغت من شعرها قال لها سيدها: اجلسي، ففي هذا القدر كفاية. ثم بعد ذلك أصلح بينهن وألبسهن الخلع السنية، ونقَّطهن بنفيس الجواهر البرية والبحرية. فما رأيت يا أمير المؤمنين في مكان ولا زمان أحسن من هؤلاء الجواري الحسان.
فلما سمع المأمون هذه الحكاية من محمد البصري أقبل عليه، وقال له: يا محمد، هل تعرف لهؤلاء الجواري وسيدهن محلًّا؟ وهل يمكنك أن تشتريهن لنا من سيدهن؟ فقال له محمد: يا أمير المؤمنين، قد بلغني أن سيدهنَّ مغرم بهن، ولا يمكنه مفارقتهن. فقال المأمون: خذ معك إلى سيدهن في كل جارية عشرة آلاف دينار، فيكون مبلغ ذلك الثمن ستين ألف دينار، فاحملها صحبتك وتوجَّه إلى منزله، واشترِهُنَّ منه. فأخذ محمد البصري منه ذلك القدر وتوجَّه به، فلما وصل إلى سيد الجواري أخبره بأن أمير المؤمنين يريد اشتراءهن منه بذلك المبلغ، فسمح ببيعهن لأجل خاطر أمير المؤمنين وأرسلهن إليه، فلما وصلت الجواري إلى أمير المؤمنين هيَّأ لهن مجلسًا لطيفًا، وصار يجلس فيه معهن وينادمنَهُ، وقد تعجَّب من حسنهن وجمالهن، واختلاف ألوانهن، وحسن كلامهن، وقد استمر على ذلك مدة من الزمان. ثم إن سيدهنَّ الأول الذي باعهن لما لم يكن له صبر على فراقهن، أرسل كتابًا إلى أمير المؤمنين المأمون يشكو إليه فيه ما عنده للجواري من الصبابات، ومن ضمنه هذه الأبيات:
فلما وقع ذلك الكتاب في يد الخليفة المأمون كسا الجواري من الملابس الفاخرة، وأعطاهن ستين ألف دينار، وأرسلهن إلى سيدهن، فوصلن إليه وفرح بهن غاية الفرح أكثر مما أتى إليه من المال، وأقام معهن في أطيب عيش وأهناه، إلى أن أتاهم هادم اللذات، ومفرِّق الجماعات.
ومما يُحكَى أن الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد قلق ذات ليلة قلقًا شديدًا، وتفكَّرَ فكرًا عظيمًا، فقام يتمشى في جوانب قصره حتى انتهى إلى مقصورة عليها ستر، فرفع ذلك الستر فرأى في صدرها تختًا، وعلى ذلك التخت شيء أسود كأنه إنسان نائم، وعلى يمينه شمعة وعلى يساره شمعة، فبينما هو ينظر إلى ذلك ويتعجَّب منه، وإذا بباطية مملوءة خمرًا عتيقًا والكأس عليها، فلما رأى ذلك أمير المؤمنين تعجب في نفسه وقال: أتكون هذه الصحبة لمثل هذا الأسود؟ ثم دَنَا من التخت فرأى الذي فوقه صبية نائمة وقد تجللت بشعرها، فكشف عن وجهها فرآها كأنها البدر ليلة تمامه، فملأ الخليفة الكأس من الخمر وشربه على ورد خدها، ومالت نفسه إليها فقبَّلَ أثرًا كان بوجهها، فانتبهت من منامها وهي قائلة: يا أمين الله ما هذا الخبر؟ فقال: ضيف طارق في حَيِّكم كي تضيفونه إلى وقت السحر. قالت: نعم بالسمع مني والبصر. ثم قدَّمَتِ الشراب فشربَا معًا، ثم أخذت العود وأصلحت أوتاره وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة، ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها قالت: أنا مظلومة يا أمير المؤمنين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.