فلما كانت الليلة ٣٦٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الموكلين بالسجن لما أخبروه بخبر الحكيم الفارسي الذي عندهم في السجن، وبما هو فيه من البكاء والنحيب، خطر بباله أن يدبِّر تدبيرًا يبلغ به غرضه، فلما أراد البوَّابون النومَ أدخلوه السجن، وأغلقوا عليه الباب، فسمع الحكيم يبكي وينوح على نفسه بالفارسية، ويقول في نوحه: الويل لي بما جنيتُ على نفسي وعلى ابن الملك، وبما فعلتُ بالجارية حيث لم أتركها ولم أظفر بمرادي، وذلك كله من سوء تدبيري؛ فإني طلبت لنفسي ما لا أستحقه، وما لا يصلح لمثلي، ومَن طلب ما لا يصلح له وقع في مثل ما وقعتُ فيه. فلما سمع ابن الملك كلامَ الحكيم كلَّمه بالفارسية وقال له: إلى كم هذا البكاء والعويل، هل ترى أنه أصابك ما لم يُصِبْ غيرك؟ فلما سمع الحكيم كلامه أنس به، وشكا إليه حاله وما يجده من المشقة. فلما أصبح الصباح أخذ البوَّابون ابن الملك وأتوا به إلى ملكهم، وأعلموه أنه وصل إلى المدينة بالأمس في وقتٍ لا يمكن الدخول فيه على الملك، فسأله الملك وقال له: من أيِّ البلاد أنتَ؟ وما اسمك؟ وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فقال ابن الملك: أما اسمي فإنه بالفارسية حرجة، وأما بلادي فهي بلاد فارس، وأنا من أهل العلم وخصوصًا علم الطب؛ فإني أداوِي المرضى والمجانين، ولهذا أطواف في الأقاليم والمدن لأستفيد علمًا على علمي، وإذا رأيتُ مريضًا فإني أداويه، فهذه صنعتي.
فلما سمع الملك كلامه فرح به فرحًا شديدًا، وقال له: أيها الحكيم الفاضل، لقد وصلتَ إلينا في وقت الحاجة إليك. ثم أخبره بخبر الجارية وقال له: إنْ داويتَها وأبرأتَها من جنونها، فلك عندي جميع ما تطلبه. فلما سمع كلام الملك قال له: أعزَّ الله الملك، صِفْ لي كلَّ شيء رأيتَه من جنونها، وأخبرني منذ كَمْ يوم عرض لها هذا الجنون، وكيف أخذتها هي والفرس والحكيم؟ فأخبره بالخبر من أوله إلى آخِره، ثم قال له: إن الحكيم في السجن. فقال له: أيها الملك السعيد، ما فعلت بالفرس التي كانت معهما؟ فقال له: باقية عندي إلى الآن محفوظة في بعض المقاصير. فقال ابن الملك في نفسه: إن من الرأي عندي أن أتفقَّد الفرس وأنظرها قبل كل شيء، فإن كانت سالمة لم يحدث فيها أمر فقد تمَّ لي كل ما أريده، وإن رأيتها قد بطلت حركاتها تحيَّلت بحيلة في خلاص مهجتي. ثم التفت إلى الملك وقال له: أيها الملك، ينبغي أن أنظر الفرس المذكورة لعلي أجد شيئًا يعينني على بُرْء الجارية. فقال له الملك: حبًّا وكرامة. ثم قام الملك وأخذ بيده ودخل معه إلى الفرس؛ فجعل ابن الملك يطوف حول الفرس ويتفقَّدها وينظر أحوالها، فوجدها سالمة لم يعِبْها شيء؛ ففرح ابن الملك بذلك فرحًا شديدًا، وقال: أعزَّ الله الملك، إني أريد الدخول إلى الجارية حتى أنظر ما يكون منها، وأرجو الله أن يكون بُرْؤُها على يدي بسبب الفرس إن شاء الله تعالى. ثم أمر بالمحافظة على الفرس، ومضى به الملك إلى البيت الذي فيه الجارية، فلما دخل عليها ابن الملك وجدها تختبط وتنصرع على عادتها، ولم يكن بها جنون، وإنما تفعل ذلك حتى لا يقربها أحد، فلما رآها ابن الملك على هذه الحالة قال لها: لا بأس عليك يا فتنة العالَمِين. ثم إنه جعل يرفق بها ويلاطفها إلى أن عرَّفها بنفسه، فلما عرفته صاحت صيحة عظيمة حتى غُشِي عليها من شدة ما حصل لها من الفرح؛ فظن الملك أن هذه الصرعة من فزعها منه.
ثم إن ابن الملك وضع فمه على أذنها، وقال لها: يا فتنة العالَمِين، احقني دمي ودمك واصبري وتجلَّدي؛ فإن هذا موضع نحتاج فيه إلى الصبر وإتقان التدبير في الحِيَل حتى نتخلَّص من هذا الملك الجائر، ومن الحيلة أني أخرج إليه وأقول له: إن المرض الذي بها عارض من الجنون، وأنا أضمن لك بُرْءَها. وأشرط عليه أن يفكَّ عنكِ القيد ويزول هذا العارض عنكِ، فإذا دخل إليكِ فكلِّميه بكلام مليح حتى يرى أنكِ برِئت على يدي، فيتم لنا كل ما نريد. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم إنه خرج من عندها، وتوجَّه إلى الملك فَرِحًا مسرورًا، وقال: أيها الملك السعيد، قد عرفتُ بسعادتك داءها ودواءها، وقد داويتها لكَ، فقُمِ الآن وادخل إليها، وليِّنْ كلامَك لها، وترفَّقْ بها، وعِدْها بما يسرُّها؛ فإنه يتم لك كل ما تريد منها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.