فلما كانت الليلة ٣٧١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن ابن الملك عمل الولائم العظيمة لأهل المدينة، وأقاموا في الفرح شهرًا كاملًا، ثم دخل على الجارية، وفرحَا ببعضهما فرحًا شديدًا. هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر والده، فإنه كسر الفرس الأبنوس، وأبطل حركاتها. ثم إن ابن الملك كتب كتابًا إلى أبي الجارية، وذكر له فيه حالها، وأخبره أنه تزوَّجَ بها، وهي عنده في أحسن حال، وأرسله إليه مع رسول، وصحبته هدايا وتحف نفيسة، فلما وصل الرسول إلى مدينة أبي الجارية، وهي صنعاء اليمن، أوصل الكتاب والهدايا إلى ذلك الملك، فلما قرأ الكتاب فرح فرحًا شديدًا، وقبل الهدايا، وأكرم الرسول. ثم جهَّز هدية لصهره ابن الملك، وأرسلها إليه مع ذلك الرسول؛ فرجع بها إلى ابن الملك، وأعلمه بفرح الملك أبي الجارية حين بلغه خبر ابنته، فحصل له سرور عظيم، وصار ابن الملك في كل سنة يكاتب صهره ويهاديه، ولم يزالوا كذلك حتى تُوفي الملك أبو الغلام، وتولَّى هو بعده في المملكة؛ فعدل في الرعية، وسار فيهم بسيرة مرضية؛ فدانت له البلاد وأطاعته العباد، واستمروا على هذه الحالة في ألذ عيش وأهنئه، وأرغده وأمرئه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات، ومخرِّب القصور ومعمر القبور، فسبحان الحي الذي لا يموت، وبيده الملك والملكوت.
حكاية أنس الوجود والورد في الأكمام
ومما يُحكَى أيضًا أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك عظيم الشان، ذو عزٍّ وسلطان، وكان له وزير يُسمَّى إبراهيم، وكانت له ابنة بديعة في الحُسْن والجمال، فائقة في البهجة والكمال، ذات عقل وافر وأدب باهر، إلا أنها تهوى المنادمة والراح والوجوه الملاح، ورقائق الأشعار ونوادر الأخبار، تدعو العقولَ إلى الهوى رقَّةُ معانيها، كما قال فيها بعض واصفيها:
وكان اسمها «الورد في الأكمام»، وسبب تسميتها بذلك فرطُ رقَّتها، وكمال بهجتها، وكان الملك محبًّا لمنادمتها لكمال أدبها، ومن عادة الملك أنه في كل عام يجمع أعيان مملكته ويلعب الكرة، فلما كان ذلك اليوم الذي يجمع فيه الناس للعب الكرة، جلست ابنة الوزير في الشباك لتتفرج؛ فبينما هم في اللعب إذ لاحت منها التفاتة، فرأت بين العسكر شابًّا لم يكن أحسن منه منظرًا ولا أبهى طلعةً؛ نيِّر الوجه، ضاحك السن، طويل الباع، واسع المنكب؛ فكرَّرت فيه النظر مرارًا فلم تشبع منه نظرًا، فقالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب المليح الشمائل الذي بين العسكر؟ فقالت لها: يا بنتي، الكل ملاح، فمَن هو فيهم؟ فقالت لها: اصبري حتى أشير لك إليه. ثم أخذت تفاحة ورمتها عليه؛ فرفع رأسه فرأى ابنة الوزير في الشباك كأنها البدر في الأفلاك، فلم يردَّ إليه طرفه إلا وهو بعشقها مشغول الخاطر، فأنشد قول الشاعر:
فلما فرغ اللعب قالت لدايتها: ما اسم هذا الشاب الذي أريته لك؟ قالت: اسمه أنس الوجود. فهزت رأسها ونامت في مرتبتها، وقدحت فكرتها، ثم صعَّدت الزفرات وأنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها كتبته في قرطاس، ولفَّته في خرقة من الحرير مطرَّزة بالذهب، ووضعته تحت المخدة، وكانت واحدة من داياتها تنظر إليها، فجاءتها وصارت تمارسها في الحديث حتى نامت، وسرقت الورقة من تحت المخدة وقرأتها؛ فعرفت أنها حصل لها وَجْد بأُنْس الوجود، وبعد أن قرأت الورقة وضعتها في مكانها. فلما استفاقت سيدتها الورد في الأكمام من نومها، قالت لها: يا سيدتي، إني لكِ من الناصحات، وعليك من الشفيقات، اعلمي أن الهوى شديد، وكتمانه يذيب الحديد، ويورث الأمراض والأسقام، وما على مَن يبوح بالهوى ملام. فقالت لها الورد في الأكمام: يا دايتي، وما دواء الغرام؟ قالت: دواؤه الوصال. قالت: وكيف يوجد الوصال؟ قالت: يا سيدتي، يوجد بالمراسلة ولين الكلام، وإكثار التحيات والسلام، فهذا يجمع بين الأحباب، وبه تسهُل الأمور الصعاب، وإن كان لكِ أمرٌ يا مولاتي، فأنا أولى بكتم سرك وقضاء حاجتك وحمل رسالتك. فلما سمعت منها الورد في الأكمام ذلك الكلام، طار عقلها من الفرح، لكن أمسكت نفسها عن الكلام حتى تنظر عاقبة أمرها، وقالت في نفسها: إن هذا الأمر ما عرفه أحدٌ مني، فلا أبوح به لهذه المرأة إلا بعد اختبارها. فقالت لها المرأة: يا سيدتي، إني رأيت في منامي كأنَّ رجلًا جاءني، وقال لي: إن سيدتك وأُنْس الوجود متحابَّان فمارسي أمرهما، واحملي رسائلهما، واقضي حوائجهما، واكتمي أمرهما وأسرارهما؛ يحصل لك خير كثير، وها أنا قد قصصت ما رأيتُ عليكِ، والأمر إليكِ. فقالت الورد في الأكمام لدايتها لما أخبرتها بالمنام … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.