فلما كانت الليلة ٣٧٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أخبر زوجته بخبر بنته، وقال لها: فما رأيك في ذلك؟ قالت له: اصبر عليَّ حتى أصلي صلاة الاستخارة. ثم إنها صلت ركعتين سنَّة الاستخارة، فلما فرغت من صلاتها قالت لزوجها: إن في وسط بحر الكنوز جبلًا يُسمَّى جبل الثكلى — وسبب تسميته بذلك سيأتي — وذلك الجبل لا يقدر على الوصول إليه أحدٌ إلا بالمشقة، فاجعل لها موضعًا هناك. فاتفق الوزير مع زوجته على أنه يبني فيه قصرًا منيعًا ويجعلها فيه، ويضع عندها مئُونتها عامًا بعد عام، ويجعل عندها مَن يؤانسها ويخدمها، ثم جمع النجارين والبنَّائين والمهندسين، وأرسلهم إلى ذلك الجبل، وقد بنوا لها قصرًا منيعًا لم يَرَ مثلَه الراءُون. ثم هيَّأ الزاد والراحلة ودخل على ابنته في الليل وأمرها بالسير؛ فحسَّ قلبها بالفراق، فلما خرجت ورأت هيئة الأسفار بكت بكاءً شديدًا، وكتبت على الباب تُعرِّف أنس الوجود بما جرى لها من الوَجْد الذي تقشعر منه الجلود، ويذيب الجلمود، ويُجرِي العَبَرات، والذي كتبته هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها ركبت، وساروا بها يقطعون البراري والقفار، والسهول والأوعار، حتى وصلوا إلى بحر الكنوز، ونصبوا الخيام على شاطئ البحر، ومدُّوا لها مركبًا عظيمةً، وأنزلوها فيها هي وعائلتها، وقد أمرهم أنهم إذا وصلوا إلى الجبل، وأدخلوها في القصر هي وعائلتها يرجعون بالمركب، وبعد أن يطلعوا من المركب يكسرونها، فذهبوا وفعلوا جميع ما أمرهم به، ثم رجعوا وهم يبكون على ما جرى.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإنه قام من نومه وصلَّى الصبح، ثم ركب وتوجَّه إلى خدمة السلطان، فمَرَّ في طريقه على باب الوزير على جري العادة، لعله يرى أحدًا من أتباع الوزير الذين كان يراهم، ونظر إلى الباب فرأى الشعر المتقدِّم ذِكْره مكتوبًا عليه، فلما رآه غاب عن وجوده واشتعلت النار في أحشائه ورجع إلى داره، ولم يقر له قرار ولم يطاوعه اصطبار، ولم يزل في قلقٍ ووَجْدٍ إلى أن دخل الليل، فكتم أمره وتنكَّر وخرج في جوف الليل هائمًا على غير طريق، وهو لا يدري أين يسير؛ فسار الليل كله وثاني يوم إلى أن اشتدَّ حرُّ الشمس، وتلهَّبت الجبال، واشتدَّ عليه العطش، فنظر إلى شجرة فوجد بجانبها جدول ماء يجري، فقصد تلك الشجرة وجلس في ظلِّها على شاطئ ذلك الجدول، وأراد أن يشرب فلم يجد للماء طعمًا في فمه، وقد تغيَّرَ لونه، واصفرَّ وجهه، وتورَّمت قدماه من المشي والمشقة؛ فبكى بكاءً شديدًا، وسكب العَبَرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره بكى حتى بَلَّ الثَّرَى، ثم قام من وقته وساعته، وسار من ذلك المكان؛ فبينما هو سائر في البراري والقِفار، إذ خرج عليه سَبْعٌ رقبته مختنقة بشعره، ورأسه قدر القبة، وفمه أوسع من الباب، وأنيابه مثل أنياب الفيل، فلما رآه أنس الوجود أيقن بالموت، واستقبل القبلة وتشهَّد واستعد للموت، وكان قد قرأ في الكتب أن مَن خادع السبع انخدع له؛ لأنه ينخدع بالكلام الطيب وينتخي بالمديح، فشرع يقول له: يا أسد الغابة، يا ليث الفضاء، يا ضرغام، يا أبا الفتيان، يا سلطان الوحوش، إنني عاشق مشتاق، وقد أتلفني العشق والفراق، وحين فارقت الأحباب، غبت عن الصواب، فاسمع كلامي، وارحم لوعتي وغرامي. فلما سمع الأسد مقالته تأخَّرَ عنه، وجلس مُقعِيًا على ذَنَبِه، ورفع رأسه إليه، وصار يلعب له بذَنَبه ويديه؛ فلما رأى أنس الوجود هذه الحركات، أنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره قام الأسد ومشى نحوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.