فلما كانت الليلة ٣٧٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود لما فرغ من شعره، قام
الأسد ومشى نحوه بلطف وعيناه مغرغرتان بالدموع، ولما وصل إليه لحسه
بلسانه ومشى قدَّامه، وأشار إليه أن اتبعني فتبعه، ولم يزل سائرًا وهو
خلفه ساعةً من الزمان حتى طلع به فوق جبل، ثم نزل به من فوق ذلك الجبل،
فرأى آثار المشي في البراري؛ فعرف أن ذلك أثر مشي القوم بالورد في
الأكمام، فتبع الأثر ومشى فيه، فلما رآه الأسد تبع الأثر وعرف أنه أثر
مشي القوم بمحبوبته، رجع الأسد إلى حال سبيله. وأما أنس الوجود فإنه لم
يزل ماشيًا في الأثر أيامًا وليالي حتى أقبل على بحرٍ عجاجٍ متلاطِم
بالأمواج، ووصل الأثر إلى شاطئ البحر وانقطع؛ فعلم أنهم ركبوا البحر
وساروا فيه، وانقطع رجاؤه منهم هناك، فسكب العَبَرات وأنشد هذه
الأبيات:
شَطَّ الْمَزَارُ وَعَنْهُمْ قَلَّ
مُصْطَبَرِي
وَكَيْفَ أَمْشِي لَهُمْ فِي لُجَّةِ
الْبَحْرِ
أَوْ كَيْفَ أَصْبِرُ وَالْأَحْشَاءُ قَدْ
تَلَفَتْ
فِي حُبِّهِمْ وَبَدَلْتُ النَّوْمَ
بِالسَّهَرِ
مِنْ يَوْمِ غَابُوا عَنِ الْأَوْطَانِ
وَارْتَحَلُوا
وَمُهْجَتِي فِي لَهِيبٍ أَيِّ مُسْتَعِرِ
سَيْحُون جَيْحُون دَمْعِي كَالْفُرَاتِ
جَرَى
فَفَيْضُهُ فَائِقُ الطُّوفَانِ وَالْمَطَرِ
تَقَرَّحَ الْجَفْنُ مِنْ جَرْي الدُّمُوعُ
بِهِ
وَأَحْرَقَ الْقَلْبَ بِالنِّيرَانِ
وَالشَّرَرِ
جُيُوشُ وَجْدِيَ وَالْأَشْوَاقُ قَدْ
هَجَمَتْ
وَجَيْشُ صَبْرِيَ فِي إِدْبَارِ مُنْكَسِرِ
خَاطَرْتُ بِالرُّوحِ بَذْلًا فِي
مَحَبَّتِهِ
وَكَانَتِ الرُّوحُ عِنْدِي أَسْهَلَ
الْخَطَرِ
لَا آخَذَ اللهُ عَيْنًا فِي الْحِمَى
نَظَرَتْ
ذَاكَ الْجَمَالَ الَّذِي أَبْهَى مِنَ
الْقَمَرِ
أَصْبَحْتُ مُنْطَرِحًا مِنْ أَعْيُنٍ نُجْلٍ
سِهَامُهَا رَشَقَتْ قَلْبِي بِلَا وَتَرِ
وَخَادَعَتْنِي بِلِينٍ مِنْ مَعَاطِفِهَا
كَمَا تَلِينُ غُصُونُ الْبَانِ فِي
الشَّجَرِ
طَمِعْتُ مِنْهُمْ بِوَصْلٍ أَسْتَعِينُ بِهِ
عَلَى أُمُورِ الْهَوَى وَالْغَمِّ
وَالْكَدَرِ
وَصِرْتُ فِيهِمْ كَمَا أَمْسَيْتُ
مُكْتَئِبًا
وَكُلُّ مَا حَلَّ بِي مِنْ فِتْنَةِ
النَّظَرِ
فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشيًّا عليه، واستمر في غشيته مدة
مديدة، ثم أفاق من غشيته والتفت يمينًا وشمالًا فلم يرَ أحدًا في
البرية، فخشي على نفسه من الوحوش فصعد على جبل عالٍ. فبينما هو في ذلك
الجبل إذ سمع صوت آدمي يتكلم في مغارة فصغى إليه، وإذا هو عابد قد ترك
الدنيا واشتغل بالعبادة، فطرق عليه المغارة ثلاث مرات فلم يُجِبْه
العابد ولم يخرج إليه؛ فصعَّد الزفرات وأنشد هذه الأبيات:
كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى أَنْ أَبْلُغَ
الْأَرَبَا
وَأَتْرُكَ الْهَمَّ وَالتَّكْدِيرَ
وَالتَّعَبَا
وَكُلُّ هَوْلٍ مِنَ الْأَهْوَالِ شَيَّبَنِي
قَلْبًا وَرَأْسًا مَشِيبًا فِي زَمَانِ
صِبَا
وَلَمْ أَجِدْ لِي مُعِينًا فِي الْغَرَامِ
وَلَا
خِلًّا يُخَفِّفُ عَنِّي الْوَجْدَ
وَالنَّصَبَا
وَكَمْ أُكَابِدُ فِي الْأَشْوَاقِ مِنْ
وَلَهٍ
كَأَنَّ دَهْرِي عَلَيَّ الْآنَ قَدْ قَلَبَا
وَا رَحْمَتَاهُ لِصَبٍّ عَاشِقٍ قَلِقٍ
كَأْسَ التَّفَرُّقِ وَالْهِجْرَانِ قَدْ
شَرِبَا
فَالنَّارُ فِي الْقَلْبِ وَالْأَحْشَاءِ قَدْ
مُحِيَتْ
وَالْعَقْلُ مِنْ لَوْعَةِ التَّفْرِيقِ قَدْ
سُلِبَا
مَا كَانَ أَعْظَمَ يَوْمًا جِئْتُ
مَنْزِلَهُمْ
وَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى الْأَبْوَابِ مَا
كُتِبَا
بَكَيْتُ حَتَّى سُقِيتُ الْأَرْضَ مِنْ
وَلَهٍ
لَكِنْ كَتَمْتُ عَنِ الدَّانِينَ
وَالْغُرَبَا
يَا عَابِدًا قَدْ تَغَاضَى فِي مَغَارَتِهِ
كَأَنَّهُ ذَاقَ طَعْمَ الْعِشْقِ
وَانْسَلَبَا
وَبَعْدَ هَذَا وَهَذَا كُلِّهِ فَإِذَا
بَلَغْتُ قَصْدِي فَلَا هَمًّا وَلَا تَعَبَا
فلما فرغ من شعره، وإذا بباب المغارة قد انفتح، وسمع قائلًا يقول: وا
رحمتاه! فدخل الباب وسلَّم على العابد، فردَّ عليه السلام وقال له: ما
اسمك؟ قال: اسمي أنس الوجود. فقال له: ما سبب مجيئك إلى هذا المكان؟
فقصَّ عليه قصته من أولها إلى آخرها، وأخبره بجميع ما جرى له؛ فبكى
العابد وقال له: يا أنس الوجود، إن لي في هذا المكان عشرين عامًا ما
رأيت فيه أحدًا إلا بالأمس؛ فإني سمعت بكاءً وغواشًا، فنظرت إلى جهة
الصوت فرأيت ناسًا كثيرين، وخيامًا منصوبة على شاطئ البحر، وأقاموا
مركبًا ونزل فيها قوم منهم، وساروا بها في البحر، ثم رجع بالمركب بعض
مَن نزل فيها وكسروها، وتوجَّهوا إلى حال سبيلهم، وأظن أن الذين ساروا
على ظهر البحر ولم يرجعوا هم الذين أنت في طلبهم يا أنس الوجود،
وحينئذٍ همُّك عظيم، وأنت معذور، ولكن لا يوجد مُحِبٌّ إلا وقد قاسى
الحسرات. ثم أنشد العابد هذه الأبيات:
أُنْسُ الْوُجُودِ خَلِيَّ الْبَالِ
تَحْسَبُنِي
وَالشَّوْقُ وَالْوَجْدُ يَطْوِينِي
وَيَنْشُرُنِي
إِنِّي عَرَفْتُ الْهَوَى وَالْعِشْقَ مِنْ
صِغَرِي
مِنْ حِينَ كُنْتُ صَبِيًّا رَاضِعَ
اللَّبَنِ
مَارَسْتُهُ زَمَنًا حَتَّى عُرِفْتُ بِهِ
إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ عَنِّي فَهْوَ
يَعْرِفُنِي
شَرِبْتُ كَأْسَ الْجَوَى مِنْ لَوْعَةٍ
وَضَنًى
فَصِرْتُ مَحْوًا بِهِ مِنْ رِقَّةِ
الْبَدَنِ
قَدْ كُنْتُ ذَا قُوَّةٍ لَكِنْ وَهَى
جَلَدِي
وَجَيْشُ صَبْرِي بِأَسْيَافِ اللِّحَاظِ
فَنِي
لَا تَرْتَجِي فِي الْهَوَى وَصْلًا بِغَيْرِ
جَفَا
فَالضِّدُّ بِالضِّدِّ مَقْرُونٌ مَدَى
الزَّمَنِ
قَضَى الْغَرَامُ عَلَى العُشَّاقِ
أَجْمَعِهِمْ
إِنَّ السُّلُوَّ حَرَامٌ حِكْمَةُ الْفَطِنِ
فلما فرغ العابد من إنشاد شعره، قام إلى أنس الوجود وعانَقَه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.