فلما كانت الليلة ٣٧٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العابد لما فرغ من إنشاد شعره قام إلى أنس الوجود وعانقه، وتباكيا حتى دوت الجبال من بكائهما، ولم يزالا يبكيان حتى وقعا مغشيًّا عليهما، ثم أفاقا وتعاهدا على أنهما أخوان في الله تعالى، ثم قال العابد لأنس الوجود: أنا في هذه الليلة أصلِّي وأستخير الله لك على شيء تعمله. فقال له أنس الوجود: سمعًا وطاعة.
هذا ما كان من أمر أنس الوجود، وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام، فإنها لما وصلوا بها إلى الجبل وأدخلوها القصر ورأته ورأت ترتيبه، بكت وقالت: والله إنك مكان مليح، غير أنك ناقص وجود الحبيب فيك. ورأت في تلك الجزيرة أطيارًا، فأمرت بعض أتباعها أن ينصب لها فخًّا، ويصطاد به منها، وكل ما اصطاده يضعه في أقفاص من داخل القصر، ففعل ما أمرته به. ثم إنها قعدت في شباك القصر وتذكرت ما جرى لها، وزاد بها الغرام، والوَجْد والهيام؛ فسكبت العَبَرات وأنشدت هذه الأبيات:
فلما جنَّ عليها الظلام اشتدَّ بها الغرام وتذكرَتْ ما فات، فأنشدت هذه الأبيات:
هذا ما كان من أمر الورد في الأكمام، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإن العابد قال له: انزل إلى الوادي وائتني من النخيل بليف. فنزل وجاء له بليف، فأخذه العابد وفتله وجعله شنفًا مثل أشناف التبن، وقال له: يا أنس الوجود، إن في جوف الوادي فرعًا يطلع وينشف على أصوله، فانزل إليه واملأ هذا الشنف منه، واربطه وارمه في البحر واركب عليه، وتوجَّه به إلى وسط البحر لعلَّك تبلغ قصدك؛ فإن مَن لم يخاطر بنفسه لم يبلغ المقصود. فقال: سمعًا وطاعة. ثم ودَّعه وانصرف من عنده إلى ما أمره به بعد أن دعا له العابد. ولم يزل أنس الوجود سائرًا إلى جوف الوادي، وفعل كما قال له العابد، ولما وصل بالشنف إلى وسط البحر خرج عليه ريح فزفَّه بالشنف حتى غاب عن عين العابد، ولم يزل سابحًا في لجَّة البحر ترفعه موجة وتحطُّه أخرى، وهو يرى ما في البحر من العجائب والأهوال، إلى أن رمته المقادير على جبل الثكلى بعد ثلاثة أيام، فنزل إلى البر مثل الفرخ الدائخ لهفان من الجوع والعطش؛ فوجد في ذلك المكان أنهارًا جارية، وأطيارًا مغرِّدة على الأغصان، وأشجارًا مثمرة صنوانًا وغير صنوان؛ فأكل من الأثمار، وشرب من الأنهار، وقام يمشي فرأى بياضًا على بُعْدٍ، فمشى جهته حتى وصل إليه فوجده قصرًا منيعًا حصينًا، فأتى باب القصر فوجده مقفولًا، فجلس عنده ثلاثة أيام. فبينما هو جالس وإذا بباب القصر قد فُتِح وخرج منه شخص من الخدم، فرأى أنس الوجود قاعدًا، فقال له: من أين أتيتَ؟ ومَن أوصلك إلى هنا؟ فقال: من أصبهان، وكنت مسافرًا في البحر بتجارة فانكسرت المركب التي كنتُ فيها، فرمتني الأمواج على ظهر هذه الجزيرة. فبكى الخادم وعانَقَه وقال: حيَّاك الله يا وجه الأحباب، إن أصبهان بلادي، ولي فيها بنت عمٍّ كنتُ أحبُّها وأنا صغير، وكنتُ مولعًا بها، فغزانا قوم أقوى منَّا وأخذوني في جملة الغنائم، وكنت صغيرًا فقطعوا إحليلي ثم باعوني خادمًا، وها أنا في تلك الحالة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.