فلما كانت الليلة ٣٧٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخادم الذي خرج من قصر الورد في
الأكمام حدَّث أنس الوجود بجميع ما حصل له، وقال له: إن القوم الذين
أخذوني قطعوا إحليلي وباعوني خادمًا، وها أنا في تلك الحالة. وبعدما
سلَّم عليه وحيَّاه أدخله ساحة القصر، فلما دخل رأى بحيرة عظيمة،
وحولها أشجار وأغصان، وفيها أطيار في أقفاص من فضة، وأبوابها من الذهب،
وتلك الأقفاص معلَّقة على الأغصان، والأطيار فيها تناغي وتسبِّح الملك
الديان، فلما وصل إلى أولها تأمَّله فإذا هو قمري، فلما رآه الطير مدَّ
صوته وقال: يا كريم. فغشي على أنس الوجود، فلما أفاق من غشيته صعَّد
الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
أَيُّهَا الْقُمْرِيُّ هَلْ مِثْلِي تَهِيمْ
فَاسْأَلِ الْمَوْلَى وَغَرِّدْ يَا كَرِيمْ
يَا تُرَى نَوْحُكَ هَذَا طَرَبٌ
أَوْ غَرَامٌ مِنْكَ فِي الْقَلْبِ مُقِيمْ
إِنْ تَنُحْ وَجْدًا لِأَحْبَابٍ مَضَوْا
إِنَّنِي مُضْنًى بِهِمْ دَوْمًا سَقِيمْ
أَوْ فَقَدْتَ الْحُبَّ مِثْلِي فِي الْهَوَى
فَالتَّجَافِي يُظْهِرُ الْوَجْدَ الْقَدِيمْ
يَا رَعَى اللهُ مُحِبًّا صَادِقًا
لَسْتُ أَسْلُوهُ وَلَوْ عَظْمِي رَمِيمْ
فلما فرغ من شعره بكى حتى وقع مغشيًّا عليه، وحين أفاق من غشيته مشى
حتى وصل إلى ثاني قفص فوجده فاختًا، فلمَّا رآه الفاخت غرَّدَ وقال: يا
دايم أشكرك. فصعَّد أنس الوجود الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
وَفَاخِتٍ قَدْ قَالَ فِي نَوْحِهِ
يَا دَايِمًا شُكْرًا عَلَى بَلْوَتِي
عَسَى لَعَلَّ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ
يَقْضِي بِوَصْلِ الْحُبِّ فِي سَفْرَتِي
وَرُبَّ مَعْسُولِ اللَّمَى زَارَنِي
فَزَادَنِي عِشْقًا عَلَى صَبْوَتِي
فَقُلْتُ وَالنِّيرَانُ قَدْ أُضْرِمَتْ
فِي الْقَلْبِ حَتَّى أَحْرَقَتْ مُهْجَتِي
وَالدَّمْعُ مَسْفُوحٌ يُحَاكِي دَمًا
قَدْ فَاضَ جَارِيهِ عَلَى وَجْنَتِي
مَا ثَمَّ مَخْلُوقٌ بِلَا مِحْنَةٍ
لَكِنَّ لِي صَبْرًا عَلَى مِحْنَتِي
بِقُدْرَةِ اللهِ مَتَّى لَمَّنِي
وَقْتَ الصَّفَا يَوْمًا عَلَى سَادَتِي
جَعَلْتُ لِلْعُشَّاقِ مَالِي قِرًى
لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ عَلَى سُنَّتِي
وَأَطْلُقُ الْأَطْيَارَ مِنْ سِجْنِهَا
وَأَتْرُكُ الْأَحْزَانَ مِنْ فَرْحَتِي
فلما فرغ من شعره تمشَّى إلى ثالث قفص فوجده هَزارًا، فزعق الهزار
عند رؤيته؛ فلما سمعه أنشد هذه الأبيات:
إِنَّ الْهَزَارَ لَطِيفُ الصَّوْتِ
يُعْجِبُنِي
كَأَنَّهُ صَوْتُ صَبٍّ فِي الْغَرَامِ فَنِي
وَا رَحْمَتَاهُ عَلَى الْعُشَّاقِ كَمْ
قَلِقُوا
مِنْ لَيْلَةٍ بِالْهَوَى وَالشَّوْقِ
وَالْمِحَنِ
كَأَنَّهُمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّوْقِ قَدْ
خُلِقُوا
بِلَا صَبَاحٍ وَلَا نَوْمٍ مِنَ الشَّجَنِ
لَمَّا جُنِنْتُ بِمَنْ أَهْوَاهُ قَيَّدَنِي
فِيهِ الْغَرَامُ وَلَمَّا عَادَ قَيَّدَنِي
تَسَلْسَلَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِي فَقُلْتُ
لَهُ
سَلَاسِلُ الدَّمْعِ قَدْ طَالَتْ
فَسَلْسَلَنِي
زَادَ اشْتِيَاقِي وَطَالَ الْبُعْدُ
وَانْعَدَمَتْ
كُنُوزُ صَبْرِي وَفَرْطُ الْوَجْدُ
أَتْلَفَنِي
إِنْ كَانَ الدَّهْرُ صَافٍ قَامَ
يَجْمَعُنِي
بِمَنْ أُحِبُّ وَسَتْرُ اللهِ يَشْمُلُنِي
قَلَعْتُ ثَوْبِي لِحِبِّي كَيْ يَرَى
جَسَدِي
بِالصَّدِّ وَالْبُعْدِ وَالْهِجْرَانِ كَيْفَ
ضُنِي
فلما فرغ من شعره تمشَّى إلى رابع قفص فرآه بُلبلًا، فناح وغرَّد عند
رؤية أنس الوجود؛ فلما سمع تغريده سكب العَبَرات، وأنشد هذه
الأبيات:
إِنَّ لِلْبُلْبُلِ صَوْتًا فِي السَّحَرْ
يُشْغِلُ الْعَاشِقَ عَنْ حُسْنِ الْوَتَرْ
فِي الْهَوَى أُنْسَ الْوُجُودِ الْمُشْتَكِي
مِنْ غَرَامٍ قَدْ مَحَا مِنْهُ الْأَثَرْ
كَمْ سَمِعْنَا صَوْتَ أَلْحَانٍ مَحَتْ
طَرَبًا صَلْدَ حَدِيدٍ وَحَجَرْ
وَنَسِيمُ الصُّبْحِ قَدْ يَرْوِي لَنَا
عَنْ رِيَاضٍ يَانِعَاتٍ بِالزَّهَرْ
فَطَرِبْنَا بِسَمَاعٍ وَشَذَا
مِنْ نَسِيمٍ وَطُيُورٍ فِي السَّحَرْ
وَتَذَكَّرْنَا حَبِيبًا غَائِبًا
فَجَرَى الدَّمْعُ سُيُولًا وَمَطَرْ
وَلَهِيبُ النَّارِ فِي أَحْشَائِنَا
مُضْرَمٌ ذَاكَ كَجَمْرٍ بِالشَّرَرْ
مَتَّعَ اللهُ مُحِبًّا عَاشِقًا
مِنْ حَبِيبٍ بِوِصَالٍ وَنَظَرْ
إِنَّ لِلْعُشَّاقِ عُذْرًا وَاضِحًا
لَيْسَ يَدْرِي الْعُذْرَ إِلَّا ذُو نَظَرْ
فلما فرغ من شعره مشى قليلًا فرأى قفصًا حسنًا لم يكن هناك أحسن منه،
فلما قرب منه وجده حمام الأيك، وهو اليمام المشهور من بين الطيور ينوح
بالغرام، وفي عنقه عقد من جوهر بديع النظام، وتأمَّله فوجده ذاهلًا
باهتًا في قفصه، فلما رآه بهذه الحالة أفاض العَبَرات، وأنشد هذه
الأبيات:
يَا حَمَامَ الْأَيْكِ أُقْرِيكَ السَّلَامْ
يَا أَخَا الْعُشَّاقِ مِنْ أَهْلِ
الْغَرَامْ
إِنَّنِي أَهْوَى غَزَالًا أَهْيَفَ
لَحْظُهُ أَقْطَعُ مِنْ حَدِّ الْحُسَامْ
فِي الْهَوَى أَحْرَقَ قَلْبِي وَالْحَشَا
وَعَلَا جِسْمِي نُحُولِي وَالسَّقَامْ
وَلَذِيذُ الزَّادِ قَدْ حُرِمْتُهُ
مِثْلَمَا حُرِمْتُ مِنْ طِيبِ الْمَنَامْ
وَاصْطِبَارِي وَسُلُوِّي رَحَلَا
وَالْهَوَى بِالْوَجْدِ عِنْدِي قَدْ أَقَامْ
كَيْفَ يَهْنَا الْعَيْشُ لِي مِنْ
بَعْدِهِمْ
وَهُمُو رُوحِي وَقَصْدِي وَالْمَرَامْ
فلما فرغ أنس الوجود من شعره … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن
الكلام المباح.