فلما كانت الليلة ٣٧٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود لما فرغ من شعره، كان
حمام الأيك قد انتبه من ذهوله وسمع إنشاده، فصاح وناح، وأكثر التغريد
والنواح، حتى كاد أن ينطق بالترنيمات، وأنشد عنه لسان الحال هذه
الأبيات:
أَيُّهَا الْعَاشِقُ قَدْ ذَكَّرْتَنِي
زَمَنًا فِيهِ شَبَابِي قَدْ فَنِي
وَحَبِيبًا كُنْتُ أَهْوَى شَكْلَهُ
ذَا جَمَالٍ فَائِقٍ وَمُفْتِنِ
صَوْتُهُ مِنْ فَوْقِ أَغْصَانِ النَّقَى
عَنْ سَمَاعِ النَّاي وَجْدًا رَدَّنِي
نَصَبَ الصَّيَادُ فَخًّا صَادَهُ
قَائِلًا لَوْ لِلْفَضَا يَتْرُكُنِي
كُنْتُ أَرْجُو أَنَّهُ ذُو رَأْفَةٍ
أَوْ يَرَانِي عَاشِقًا يَرْحَمُنِي
فَرَمَاهُ اللهُ لَمَّا أَنَّهُ
مِنْ حَبِيبِي بِالْجَفَا أَفْرَقَنِي
وَغَرَامِي فِيهِ أَضْحَى زَائِدًا
وَبِنَارِ البُعْدِ قَدْ أَحْرَقَنِي
يَا رَعَى اللهُ مُحِبًّا عَاشِقًا
مَارَسَ الْحُبَّ وَقَاسَى شَجَنِي
إِذْ يَرَانِي لَابِثًا فِي قَفَصِي
لِحَبِيبِي رَحْمَةً يُطْلِقُنِي
ثم إن أنس الوجود التفت إلى صاحبه الأصبهاني وقال له: ما هذا القصر؟
وما فيه؟ ومَن بناه؟ قال له: بناه وزير الملك الفلاني لابنته خوفًا
عليها من عوارض الزمان، وطوارق الحدثان، وأسكنها فيه هي وأتباعها، ولا
تفتحه إلا في كل سنة مرة لما تأتي إليهم مئونتهم. فقال في نفسه: قد حصل
المقصود، ولكن المدة طويلة.
هذا ما كان من أمر أنس الوجود، وأما ما كان من أمر الورد في الأكمام،
فإنها لم يهنأ لها شراب ولا طعام، ولا قعود ولا منام، فقامت وقد زاد
بها الغرام، والوَجْد والهيام، ودارت في أركان القصر فلم تجد لها
مصرفًا؛ فسكبت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
حَبَسُونِي عَنْ حَبِيبِي قَسْوَةً
وَأَذَاقُونِي بِسِجْنِي لَوْعَتِي
أَحْرَقُوا قَلْبِي بِنِيرَانِ الْهَوَى
حَيْثُ رَدُّوا عَنْ حَبِيبِي نَظْرَتِي
حَبَسُونِي فِي قُصُورٍ شُيِّدَتْ
فِي جِبَالٍ خُلِقَتْ فِي لُجَّةٍ
إِنْ يَكُونُوا قَدْ أَرَادُوا سَلْوَتِي
لَمْ تَزِدْ فِي الْحُبِّ إِلَّا مِحْنَتِي
كَيْفَ أَسْلُو وَالَّذِي بِي كُلُّهُ
أَصْلُهُ فِي وَجْهِ حِبِّي نَظْرَتِي
فَنَهَارِي كُلُّهُ فِي أَسَفٍ
أَقْطَعُ اللَّيْلَ بِهِمْ فِي فِكْرَتِي
وَأَنِيسِي ذِكْرُهُمْ فِي وِحْدَتِي
حِينَ أَلْقَى مِنْ لُقَاهُمْ وَحْشَتِي
يَا تُرَى هَلْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ
يَرْتَضِي الدَّهْرُ لِقَلْبِي مُنْيَتِي
فلما فرغت من شعرها طلعت إلى سطح القصر، وأخذت أثوابًا بعلبكية،
وربطت نفسها فيها، وتدلَّت حتى وصلت إلى الأرض، وقد كانت لابسة أفخر ما
عندها من اللباس، وفي عنقها عقد من الجواهر، وسارت في تلك البراري
والقفار حتى وصلت إلى شاطئ البحر، فرأت صيادًا في مركب دائرًا في البحر
يصطاد، فرماه الريح على تلك الجزيرة، فالتفت فرأى الورد في الأكمام في
تلك الجزيرة، فلما رآها فزع منها وخرج بالمركب هاربًا، فنادته وأكثرت
إليه الإشارات، وأنشدت هذه الأبيات:
يَا أَيُّهَا الصَّيَادُ لَا تَخْشَ
الْكَدَرْ
فَإِنَّنِي إِنْسِيَّةٌ مِثْلُ الْبَشَرْ
أُرِيدُ مِنْكَ أَنْ تُجِيبَ دَعْوَتِي
وَتَسْمَعَنْ قَوْلِي بِإِسْنَادِ الْخَبَرْ
فَارْحَمْ وَقَاكَ اللهُ حَرَّ صَبْوَتِي
إِنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ مَحْبُوبًا نَفَرْ
فَإِنَّنِي أَهْوَى مَلِيحًا وَجْهُهُ
قَدْ فَاقَ وَجْهَ الشَّمْسِ نُورًا
وَالْقَمَرْ
وَالظَّبْيُ لَمَّا أَنْ رَأَى أَلْحَاظَهُ
قَدْ قَالَ إِنِّي عَبْدُهُ ثُمَّ اعْتَذَرْ
قَدْ كَتَبَ الْحُسْنُ عَلَى وَجْنَتِهِ
سَطْرًا بَدِيعًا فِي الْمَعَانِي مُخْتَصَرْ
فَمَنْ رَأَى نُورَ الْهَوَى قَدِ اهْتَدَى
أَمَّا الَّذِي ضَلَّ تَعَدَّى وَكَفَرْ
عَسَى حَبِيبِي أَنْ يُوَفِّي بِالْمُنَى
فَإِنَّ قَلْبِي ذَابَ شَوْقًا وَانْفَطَرْ
فلما سمع الصياد كلامها، بكى وأنَّ واشتكى، وتذكَّر ما مضى له في
صباه حين غلب عليه هواه، واشتدَّ به الغرام وزاد به الوَجْد والهيام،
وأحرقته نيران الصبابات، وأنشد هذه الأبيات:
بِغَرَامِي أَيُّ عُذْرٍ وَاضِحِ
سَقِيمُ أَعْضَاءٍ بِدَمْعٍ سَافِحِ
تِلْكَ عَيْنِي فِي الدُّجَى سَاهِرَةٌ
مَنْ لِقَلْبٍ كَزِنَادٍ قَادِحِ
قَدْ بَلَوْنَا الْعِشْقَ مِنْ نَشْأَتِنَا
وَعَرَفْنَا نَاقِصًا مِنْ رَاجِحِ
ثُمَّ بِعْنَا فِي الْهَوَى أَنْفُسَنَا
بِوِصَالٍ مِنْ حَبِيبٍ نَازِحِ
ثُمَّ بِالْأَرْوَاحِ خَاطَرْنَا عَسَى
أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَيْعَ الرَّابِحِ
مَذْهَبُ الْعُشَّاقِ أَنَّ الْمُشْتَرِي
وَصْلَ مَحْبُوبٍ سَمَا عَنْ رَابِحِ
فلما فرغ من شعره أرسى مركبه على البر، وقال لها: انزلي في المركب
حتى أعدي بك إلى أي موضع تريدين. فنزلت في المركب وعوَّمَ بها، فلما
فارق البر بقليل هبَّت على المركب ريح من خلفها، فسارت المركب بسرعة
حتى غاب البر عن أعينهما، وصار الصياد لا يعرف أين يذهب، ومكث اشتداد
الريح مدة ثلاثة أيام، ثم سكنت الريح بإذن الله تعالى، ولم تزل المركب
تسير بهما حتى وصلت إلى مدينة على شاطئ البحر. وأدرك شهرزاد الصباح
فسكتَتْ عن الكلام المباح.