فلما كانت الليلة ٣٧٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم وزير الملك شامخ أخذ جماعة من أتباعه، واستصحب وزير الملك درباس، وساروا في طلب أنس الوجود، فكانوا كلما مروا بعرب أو قوم يسألونهم عن أنس الوجود فيقولون لهم: هل مرَّ بكم شخص اسمه كذا، وصفته كذا وكذا؟ فيقولون: لا نعلمه. وما زالوا يسألون في المدائن والقرى، ويفتِّشون في السهول والأوعار، والبراري والقفار، حتى وصلوا إلى شاطئ البحر، وطلبوا مركبًا ونزلوا فيها، وساروا بها حتى أقبلوا على جبل الثكلى، فقال وزير الملك درباس لوزير الملك شامخ: لأي شيء سُمِّي هذا الجبل بذلك الاسم؟ فقال له: لأنه نزلت به جنِّية في قديم الزمان، وكانت تلك الجنية من جن الصين، وقد أحَبَّتْ إنسانًا ووقع له فيها غرام، وخافت على نفسها من أهلها، فلما زاد بها الغرام فتَّشت في الأرض على مكان تخفيه فيه عن أهلها، فوجدت هذا الجبل منقطعًا عن الإنس والجن، بحيث لا يهتدي إلى طريقه أحد لا من الإنس ولا من الجن، فاختطفَتْ محبوبها ووضعته فيه، وصارت تذهب إلى أهلها وتأتيه في خفية، ولم تزل على ذلك زمنًا طويلًا حتى ولدت منه في ذلك الجبل أطفالًا متعددة، وكان كلُّ مَن يمرُّ على هذا الجبل من التجار المسافرين في البحر، يسمع بكاء الأطفال كبكاء المرأة التي ثكلت أولادها؛ أي فقدتهم، فيقول: هل هنا ثكلى؟ فتعجَّبَ وزير الملك درباس من ذلك الكلام، ثم إنهم ساروا حتى وصلوا إلى القصر وطرقوا الباب، فانفتح الباب وخرج لهم خادم فعرف إبراهيم وزير الملك شامخ فقبَّلَ يديه، ثم دخل القصر فوجد في فسحته رجلًا فقيرًا بين الخدامين، وهو أنس الوجود، فقال لهم: من أين هذا؟ فقالوا له: إنه رجل تاجر غرق ماله ونجا بنفسه وهو مجذوب. فتركه ثم مشى إلى داخل القصر فلم يجد لابنته أثرًا، فسأل الجواري التي هناك فقلن له: ما عرفنا كيف راحت، ولا أقامت معنا سوى مدة يسيرة. فسكب العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره بكى وأنَّ واشتكى، وقال: لا حيلة في قضاء الله، ولا مفر مما قدَّره وقضاه. ثم طلع إلى سطح القصر فوجد الثياب البعلبكية مربوطة في شراريف القصر واصلة إلى الأرض، فعرف أنها قد نزلت من ذلك المكان، وراحت كالهائم الولهان، والتفت فرأى هناك طيرين غرابًا وبومة؛ فتشاءم من ذلك، وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
ثم نزل من فوق القصر وهو يبكي، وقد أمر الخفلما فرغَتْ من شعرها حكت للملك دام أن يخرجوا إلى الجبل ويفتشوا على سيدتهم، ففعلوا ذلك فلم يجدوها. هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أنس الوجود، فإنه لما تحقَّق أن الورد في الأكمام قد ذهبت، صاح صيحة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، واستمر في غشيته؛ فظنوا أنه أخذته جذبة من الرحمن، واستغرق في جمال هيئة الديَّان، ولما يئسوا من وجود أنس الوجود، واشتغل قلب الوزير إبراهيم بفقد بنته الورد في الأكمام، أراد وزير الملك درباس أن يتوجه إلى بلاده، وإن لم يفُزْ من سفره بمراده، فأخذ يودعه الوزير إبراهيم والد الورد في الأكمام، فقال له وزير الملك درباس: إني أريد أن آخذ هذا الفقير معي، عسى الله تعالى أن يعطف عليَّ قلب الملك ببركته لأنه مجذوب، ثم بعد ذلك أُرسِله إلى بلاد أصبهان؛ لأنها قريبة من بلادنا. فقال له: افعل ما تريد. ثم انصرف كلٌّ منهما متوجِّهًا إلى بلاده، وقد أخذ وزير الملك درباس أنس الوجود معه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.