فلما كانت الليلة ٣٨١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أنس الوجود والورد في الأكمام لما
اجتمعا تعانَقَا، ولم يزالَا متعانِقَيْن حتى وقعَا مغشيًّا عليهما من
لذَّة الاجتماع، فلما أفاقا من غشيتهما أنشد أنس الوجود هذه
الأبيات:
مَا أُحَيْلَاهَا لُيَيْلَاتِ الْوَفَا
حَيْثُ أَمْسَى لِي حَبِيبِي مُنْصِفَا
وَتَوَالَى الْوَصْلُ فِيمَا بَيْنَنَا
وَانْفِصَالُ الْهَجْرِ عَنَّا قَدْ وَفَى
وَإِلَيْنَا الدَّهْرُ يَسْعَى مُقْبِلًا
بَعْدَمَا مَالَ وَعَنَّا انْحَرَفَا
نَصَبَ السَّعْدُ لَنَا أَعْلَامُهُ
وَشَرِبْنَا مِنْهُ كَأْسًا قَدْ صَفَا
وَاجْتَمَعْنَا وَتَشَاكَيْنَا الْأَسَى
وَلُيَيْلَاتٍ تَقَضَّتْ بِالْجَفَا
وَنَسِينَا مَا مَضَى يَا سَادَتِي
وَعَفَا الرَّحْمَنُ عَمَّا سَلَفَا
مَا أَلَذَّ الْعَيْشَ مَا أَطْيَبَهُ
لَمْ يَزِدْنِي الْوَصْلُ إِلَّا شَغَفَا
فلما فرغ من شعره تعانقا، واضطجعا في خلوتهما، ولم يزالا في منادمة
وأشعار، ولطيف حكايات وأخبار، حتى غرقا في بحر الغرام، ومضت عليهما
سبعة أيام، وهما لا يدريان ليلًا من نهار؛ لفرط ما هما فيه من لذة
وسرور، وصفو وحبور، فكأنَّ السبعة أيام يوم واحد ليس له ثانٍ، وما عرفا
يوم الأسبوع إلا بمجيء آلات المغاني؛ فأكثرت الورد في الأكمام
التعجُّبات، ثم أنشدت هذه الأبيات:
عَلَى غَيْظِ الْحَوَاسِدِ وَالرَّقِيبِ
بَلَغْنَا مَا نُرِيدُ مِنَ الْحَبِيبِ
وَأَسْعَفَنَا التَّوَاصُلُ بِاعْتِنَاقٍ
عَلَى الدِّيبَاجِ وَالْقَزِّ الْقَشِيبِ
وَفَرْشٍ مِنْ أَدِيمٍ قَدْ حَشَوْنَا
بِرِيشِ الطَّيْرِ مِنْ شَكْلٍ غَرِيبِ
وَعَنْ شُرْبِ الْمُدَامِ قَدِ اغْتَنَيْنَا
بِرِيقِ الْحِبِّ جُلَّ عَنِ الضَّرِيبِ
وَمِنْ طِيبِ الْوِصَالِ فَلَيْسَ نَدْرِي
بِأَوْقَاتِ الْبَعِيدِ مِنَ الْقَرِيبِ
لَيَالٍ سَبْعَةٌ مَرَّتْ عَلَيْنَا
وَلَمْ نَشْعُرْ بِهَا كَمْ مِنْ عَجِيبِ
فَهَنُّونِي بِأُسْبُوعٍ وَقُولُوا
أَدَامَ اللهُ وَصْلَكَ بِالْحَبِيبِ
فلما فرغت من شعرها قبَّلها أنس الوجود ما ينوف عن المئات، ثم أنشد
هذه الأبيات:
أَتَى يَوْمُ السُّرُورِ مَعَ التَّهَانِي
وَجَاءَ الْحِبُّ مِنْ صَدٍّ وَقَانِي
فَآنَسَنِي بِطِيبِ الْوَصْلِ مِنْهُ
وَنَادَمَنِي بِأَلْطَافِ الْمَعَانِي
وَأَسْقَانِي شَرَابَ الْأُنْسِ حَتَّى
ذُهِلْتُ عَنِ الْوُجُودِ بِمَا سَقَانِي
طَرِبْنَا وَانْشَرَحْنَا وَاضْطَجَعْنَا
وَصِرْنَا فِي شَرَابٍ مَعْ أَغَانِي
وَمِنْ فَرْطِ السُّرُورِ فَلَيْسَ نَدْرِي
مِنَ الْأَيَّامِ أَوَّلَها وَثَانِي
هَنِيئًا لِلْمُحِبِّ بِطِيبِ وَصْلٍ
وَوَافَاهُ السُّرُورُ كَمَا وَفَانِي
وَلَا يَدْرِي لِمُرِّ الصَّدِّ طَعْمًا
وَرَبِّي قَدْ حَبَاهُ كَمَا حَبَانِي
فلما فرغ من شعره قاما وخرجا من مكانهما، وأنعما على الناس بالمال
والخلع، وأعطيا ووهبا، ثم أمرت الورد في الأكمام أن يُخلوا لها
الحمَّام، وقالت لأنس الوجود: يا قرة عيني، قصدي أن أراك في الحمام
ونكون بمفردنا من غير أحد معنا. وزادت بها المسرَّات فأنشدت هذه
الأبيات:
أَيَا مَنْ قَدْ تَمَلَّكَنِي قَدِيمًا
وَلَمْ يُغْنِ الْحَدِيثُ عَنِ الْقَدِيمِ
وَيَا مَنْ لَيْسَ لِي عَنْهُ غَنَاءٌ
وَلَا أَرْجُو سِوَاهُ مِنْ نَدِيمِ
إِلَى الْحَمَّامِ قُمْ يَا نُورَ عَيْنِي
نَرَى الْفِرْدَوْسَ فِي وَسَطِ الْجَحِيمِ
وَنَعْبَقُهَا بِعُودِ النَّدِّ حَتَّى
يَفُوحُ الطِّيبُ فِي الْقَطْرِ الْعَمِيمِ
وَنَصْفَحُ عَنْ ذُنُوبِ الدَّهْرِ طُرًّا
وَنَشْكُرُ فَضْلَ مَوْلَانَا الرَّحِيمِ
وَأَنْشُدُ إِذْ أَرَاكَ هُنَاكَ فِيهَا
هَنِيئًا يَا حَبِيبِي بِالنَّعِيمِ
فلما فرغت من شعرها، قاما وذهبا إلى الحمام وتنعَّما فيه، ثم عادا
إلى قصرهما وأقاما به في ألذِّ المسرات إلى أن أتاهما هادم اللذات،
ومفرِّق الجماعات، فسبحان مَن لا يحول ولا يزول، وإليه كل الأمور
تئُول.
حكاية أبي نواس والغلمان الحسان
ومما يُحكَى أن أبا نواس خلا بنفسه يومًا من الأيام، وهيَّأ
مجلسًا فاخرًا وجمع فيه من أنواع الأطعمة وسائر الألوان كل ما
تشتهي الشفة واللسان، ثم إنه خرج يمشي في طلب محبوب لائق بذلك
المجلس وقال: يا إلهي وسيدي ومولاي، أسألك أن تسوق لي مَن يناسب
ذلك المجلس ويصلح للمنادمة معي في هذا اليوم. فما استتم كلامه إلا
وقد رأى ثلاثة من المُرْد الحسان، كأنهم من ولدان الجنان، إلا أن
ألوانهم مختلفة ومحاسنهم في الإبداع مؤتلفة، وفي تثني معاطفهم تطمع
الآمال، على حدِّ قول مَن قال:
مَرَرْتُ بِأَمْرَدَيْنِ فَقُلْتُ إِنِّي
أُحِبُّكُمَا فَقَالَ الْأَمْرَدَانِ
أَذُو مَالٍ؟ فَقُلْتُ وَذُو سَخَاءٍ
فَقَالَ الْأَمْرَدَانِ الْأَمْرُ دَانِ
وكان أبو نواس يذهب هذا المذهب، ومع الملاح يلهو ويطرب، ويجتني
ورد كل خد ناضر، كما قال الشاعر:
وَشَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ صَبْوَةٌ
يُحِبُّ الْمِلَاحَ وَيَهْوَى الطَّرَبْ
غَدَا مُوصِلِيًّا بِأَرْضِ النَّقَا
فَمَا إِنْ تَذَكَّرَ إِلَّا حَلَبْ
فذهب إلى هؤلاء الغلمان وحيَّاهم بالسلام، فقابلوه بأوفى تحية
وإكرام، ثم أرادوا الانصراف إلى بعض الجهات، فحجزهم أبو نواس وأنشد
هذه الأبيات:
فَلَا تَسْعَوْا إِلَى غَيْرِي
فَعِنْدِي مَعْدَنُ الْخَيْرِ
وَعِنْدِي قَهْوَةٌ تُجْلَى
سَبَاهَا رَاهِبُ الدَّيْرِ
وَعِنْدِي اللَّحْمُ مِنْ ضَأْنٍ
وَأَصْنَافٌ مِنَ الطَّيْرِ
كُلُوا ذَا وَاشْرَبُوا خَمْرًا
عَتِيقًا مُذْهِبَ الضَّيْرِ
وَنِيكُوا بَعْضَكُمْ بَعْضًا
وَدُسُّوا بَيْنَكُمْ أَيْرِي
فلما خدع الغلمان بأبياته مالوا إلى مرضاته وأجابوه. وأدرك
شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.