فلما كانت الليلة ٣٨٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القاضي أبا يوسف لما أخذ الرمح بيده وطعن به في الفرجة وقع الخفاش، فاندفع الوهم عن هارون الرشيد وظهرت براءة زبيدة، ثم إنها تفوَّهَتْ بلسانها فرحًا ببراءتها، وأقَرَّتْ لأبي يوسف بجائزة وافرة، وكان عندها فاكهة عظيمة في غير أوانها، وتعلم بفاكهة أخرى في غير أوانها أيضًا في البستان، فقالت له: يا إمام الدين، أي الفاكهتين أحبُّ إليك؛ الفاكهة الحاضرة أم الغائبة؟ فقال: مذهبنا لا يحكم غائب، فإذا حضر يحكم عليه. فأحضرتُ له الفاكهتين فأكل من هذه ومن هذه. فقالت: ما الفرق بينهما؟ فقال: كلما أردتُ أن أشكر إحداهما، قامت عليَّ الأخرى بحجتها. فلما سمع الرشيد كلامه ضحك وأعطاه الجائزة، وأعطته أيضًا زبيدة الجائزة التي وعدَتْه بها، وانصرف من عندهما مسرورًا. فانظر فضيلة الإمام، وما حصل على يديه من براءة السيدة زبيدة وإظهار السبب.
حكاية الحاكم بأمر الله
ومما يُحكَى أن الحاكم بأمر الله كان راكبًا في موكبه يومًا من الأيام، فمَرَّ على بستان فرأى رجلًا هناك وحوله عبيد وخدم، فاستسقاه ماء فسقاه، ثم قال: لعل أمير المؤمنين أن يكرمني بنزوله عندي في هذا البستان. فنزل الملك ونزل جيشه في ذلك البستان، فأخرج الرجل المذكور مائة بساط، ومائة نطع، ومائة وسادة، ومائة طبق من الفاكهة، ومائة جام ملآن حلوى، ومائة زبدية ملآى بالشربات السكرية، فاندهش عقل الحاكم بأمر الله من ذلك وقال له: أيها الرجل، إن خبرك عجيب! فهل علمتَ بمجيئنا فأعددتَ لنا هذا؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما علمتُ بمجيئكم وإنما أنا تاجر من جملة رعيتك، ولكن لي مائة محظية، فلما أكرمني أمير المؤمنين بنزوله عندي، أرسلتُ إلى كل واحدة منهن أن ترسل لي الغدا في البستان، فأرسلَتْ كل واحدة منهن شيئًا من فراشها، وزائد أكلها وشربها، فإن كل واحدة منهن ترسل لي في يومٍ طبقَ طعام، وطبق مبردات، وطبق فاكهة، وجامًا ممتلئًا حلوى، وزبدية شراب، وهذا غذائي في كل يوم لم أَزِدْ لكَ فيه شيئًا. فسجد أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله تعالى وقال: الحمد لله الذي جعل في رعايانا مَن وسَّعَ الله عليه حتى يُطعِم الخليفة وعسكره من غير استعداد لهم، بل من فاضل طعامه. ثم أمر له بما في بيت المال من الدراهم المضروبة في تلك السنة، فكانت ثلاثة آلاف ألف وسبعمائة ألف، ولم يركب حتى أحضرها وأعطاها لذلك الرجل وقال له: استعِنْ بها على حالك، فإن مروءتك أكبر من ذلك. ثم ركب الملك وانصرف.
حكاية كسرى أنوشروان والصبية
ومما يُحكَى أن الملك العادل كسرى أنوشِروان ركب يومًا إلى الصيد، فانفرد عن عسكره خلف ظبي، فبينما هو ساعٍ خلف الظبي، إذ رأى ضيعة قريبة منه، وكان قد عطش عطشًا شديدًا؛ فتوجَّه إلى تلك الضيعة، وقصد باب دار قوم في طريقه، فطلب ماءً ليشرب، فخرجت له صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت، وعصرت له عودًا واحدًا من قصب السكر، ومزجت ما عصرته منه بالماء، ووضعته في قدح، ووضعت عليه شيئًا من الطيب يشبه التراب، ثم سلَّمته إلى أنوشروان، فنظر في القدح فرأى فيه شيئًا يشبه التراب، فجعل يشرب منه قليلًا حتى انتهى إلى آخره، ثم قال للصبية: أيتها الصبية، نِعْمَ الماء ما أحلاه! لولا ذلك القَذَى الذي فيه فإنه كدَّره. فقالت الصبية: أيها الضيف، أنا عمدًا ألقيتُ فيه ذلك القذى الذي كدَّرَه. فقال الملك: ولِمَ فعلتِ ذلك؟ فقالت: لأني رأيتُكَ شديد العطش، وخفتُ أن تشربه نهلةً واحدةً فيضرُّك، فلو لم يكن فيه قذًى لكنتَ شربته بسرعة نهلةً واحدةً، وكان يضرُّك شرْبُه على هذه الطريقة. فتعجَّبَ الملك العادل أنوشِروان من كلامها وذكاء عقلها، وعلم أن ما قالته ناشئ عن ذكاء وفطنة وجودة عقل، فقال لها: من كم عود عصرت ذلك الماء؟ فقالت: من عود واحد. فتعجب أنوشِروان وطلب جريدة الخراج الذي يحصل من تلك القرية، فرأى خراجها قليلًا، فأضمر في نفسه أنه إذا عاد إلى تخته يزيد في خراج تلك القرية، وقال: قرية يكون في عود واحد منها هذا الماء، كيف يكون خراجها هذا القدر القليل؟ ثم إنه انصرف عن تلك القرية إلى الصيد، وفي آخر النهار رجع إليها، واجتاز على ذلك الباب منفردًا، وطلب الماء ليشرب، فخرجَتْ له تلك الصبية بعينها، فرأته فعرفته، ثم عادت لتخرج له الماء فأبطأت عليه، فاستعجلها أنوشِروان وقال: لأيِّ شيء أبطأتِ؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.