فلما كانت الليلة ٣٩٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الرجل أخذ الدراهم وانصرف خفية، فأخبروا يحيى بذلك، فقال: والله لو أقام عندي عمره وطول دهره لما منعْتُه صلتي، ولا قطعتُ عنه إكرامَ ضيافتي. وفضائل البرامكة لا تُحصَى، ومناقبهم لا تُستقصَى، وخصوصًا يحيى بن خالد؛ فإنه جمُّ المفاخر كما قال فيه الشاعر:
حكاية جعفر بن موسى ومحمد الأمين
ومما يُحكَى أن جعفر بن موسى الهادي كانت له جارية عوادة اسمها البدر الكبير، ولم يكن في زمانها أحسن منها وجهًا، ولا أعدل قدًّا، ولا ألطف معنًى، ولا أعْرَفُ بصناعة الغناء وضرب الأوتار، وكانت في غاية الجمال ونهاية الظرف والكمال، فسمع بخبرها محمد الأمين ابن زبيدة، والتمس من جعفر أن يبيعها له، فقال له جعفر: أنتَ تعلم أنه لا يليق بمثلي بيع الجواري والمساومة على السراري، ولولا أنها تربية داري لَأرسلتُها هديةً إليك ولم أبخل بها عليك. ثم إن محمدًا الأمين ابن زبيدة توجَّهَ يومًا لقصد الطرب إلى دار جعفر، فأحضر له ما يحسن حضوره بين الأحباب، وأمر جاريته البدر الكبير أن تغني له وتطربه، فأصلحت الآلات وغنَّتْ بأطيب النغمات، فأخذ محمد الأمين ابن زبيدة في الشراب والطرب، وأمر السقاة أن يُكثِروا الشراب على جعفر حتى يُسكِروه، ثم أخذ الجارية معه وانصرف إلى داره ولم يمدَّ إليها يده. فلما أصبح الصباح، أمر باستدعاء جعفر، فلما حضر قدم بين يديه الشراب، وأمر الجارية أن تغنِّي له من داخل الستارة، فسمع جعفر صوتها فعرفها فاغتاظ لذلك، ولكن لم يُظهِر غيظًا لشرف نفسه وعلوِّ همته، ولم يُبْدِ تغيُّرًا في منادمته؛ فلما انقضى مجلس الشراب أمر محمد الأمين ابن زبيدة بعض أتباعه أن يملأ الزورق الذي ركب فيه جعفر إليه من الدراهم والدنانير، وأصناف الجواهر واليواقيت، والثياب الفاخرة والأموال الباهرة، ففعل ما أمره به حتى إنه وضع في الزورق ألف بدرة، وألف درة، قيمة الدرة عشرون ألف درهم، ولم يزل يضع فيه أصناف التحف حتى استغاث الملَّاحون وقالوا: ما يقدر الزورق أن يحمل شيئًا آخَر. وأمر بحمله إلى دار جعفر، وهكذا همم الأكابر رحمهم الله.
حكاية سعيد بن سالم وابنا يحيى بن خالد
ومما يُحكَى أن سعيد بن سالم الباهلي قال: اشتدَّ بي الحال في زمن هارون الرشيد واجتمع عليَّ ديون كثيرة أثقلت ظهري، وعجزتُ عن قضائها وضاقَتْ حيلي وبقيتُ متحيِّرًا لا أدري ما أصنع؛ حيث عسر عليَّ أداؤها إعسارًا عظيمًا، واحتاطت ببابي أرباب الديون وتزاحَمَ عليَّ المطالِبون، ولازمني الغرماء فضاقت حيلي وازدادت فكرتي، فلما رأيت الأمور متعسرة والأحوال متغيرة، قصدتُ عبد الله بن مالك الخزاعي والتمستُ منه أن يمدَّني برأيه ويرشدني إلى باب الفرج بحسن تدبيره، فقال عبد الله بن مالك الخزاعي: لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك وضيقك وغمِّك غير البرامكة. فقلت: ومَن يقدر على احتمال تكبُّرهم ويصبر على تجبُّرهم؟ فقال: تحمَّلْ ذلك لأجل إصلاح حالك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.