فلما كانت الليلة ٣٩٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشابين قالا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنَّ أبانا كان مُعظَّمًا في القبائل، مُنزَّهًا عن الرذائل، معروفًا بالفضائل، ربَّانا صغارًا وأولانا مِننًا كبارًا، جمَّ المناقب والمفاخر، حقيقًا بقول الشاعر:
فخرج يومًا إلى حديقة له ليتنزَّه في أشجارها، ويقتطف يانع أثمارها، فقتله هذا الشاب، وعدل عن طريق الرشاد، ونسألك القصاص بما جناه، والحكم فيه بما أمر الله. فنظر عمر إلى الشاب نظرة مرهبة، وقال له: قد سمعتُ من هذين الغلامين الخطاب، فما تقول أنت في الجواب؟ وكان ذلك الغلام ثابت الجَنَان، جريء اللسان، قد خلع ثياب الهلع، ونزع لباس الجزع، فتبسَّم وتكلَّم بأفصح لسان، وحيَّا أمير المؤمنين بكلماتٍ حِسان، ثم قال: والله يا أمير المؤمنين لقد وعيتُ ما ادَّعياه، وصدَقَا فيما قالاه، حيث أخبرَا بما جرى، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، ولكن سأذكر قصَّتي بين يديك، والأمر فيها إليك؛ اعلم يا أمير المؤمنين، أني من صميم العرب العرباء، الذين هم أشرف مَن تحت الجرباء، نشأت في منازل البادية فأصابت قومي سود السنين العادية، فأقبلت إلى ظاهر هذه البلد بالأهل والمال والولد، وسلكت بعض طرائقها إلى المسير بين حدائقها، بنياق كريمة لديَّ، عزيزات عليَّ، بينهن فحلٌ كريم الأصل، كثير النسل، مليح الشكل، به يكثر منهن النِّتاج، ويمشي بينهن كأنه ملك عليه تاج، فندَّت بعض النياق إلى حديقة أبيهم، وقد ظهر من الحائط شجرها فتناولته بمشفرها فطردتُها عن تلك الحديقة، وإذا بشيخ من خلال الحائط قد ظهر، وزفير غيظه يرمي بالشرر، وفي يده اليمنى حجر، وهو يتهادى كالليث إذا حضر، فضرب الفحل بذلك الحجر فقتله؛ لأنه أصاب مقتله؛ فلما رأيتُ الفحل قد سقط بجانبي، آنست أن قلبي قد توقَّدَتْ فيه جمرات الغضب، فتناولت ذلك الحجر بعينه وضربته به، فكان سببًا لحينه، ولقي سوء منقلبه، والمرء مقتول بما قتل به، وعند إصابته بالحجر صاح صيحة عظيمة، وصرخ صرخة أليمة، فأسرعتُ بالسير من مكاني، فأسرع هذان الشابان وأمسكاني، وإليك أحضراني، وبين يديك أوقفاني.
فقال عمر — رضي الله تعالى عنه: قد اعترفتَ بما اقترفت، وتعذَّر الخلاص، ووجب القصاص، ولات حين مناص. فقال الشاب: سمعًا وطاعة لما حكم به الإمام، ورضيت بما اقتضته شريعة الإسلام، ولكن لي أخٌ صغير، كان له أبٌ كبير، خصَّه قبل وفاته بمال جزيل، وذهب جليل، وسلَّم أمره إليَّ، وأشهدَ الله عليَّ، وقال: هذا لأخيك عندك فاحفظه جهدك. فأخذتُ ذلك المال منه ودفنتُه، ولا أحد يعلم به إلا أنا، فإن حكمتَ الآن بقتلي ذهب المال، وكنتَ أنتَ السببَ في ذهابه، وطالَبَك الصغير بحقه يومَ يقضي الله بين خلقه، وإنْ أنتَ أنظرتَني ثلاثة أيام، أقمتُ مَن يتولَّى أمر الغلام، وعُدت وافيًا بالذمام، ولي مَن يضمنني على هذا الكلام. فأطرق أمير المؤمنين رأسه، ثم نظر إلى مَن حضر، وقال: مَن يقوم لي بضمانه والعَوْدِ إلى مكانه؟ فنظر الغلام إلى وجوه مَن في المجلس وأشار إلى أبي ذَرٍّ دون الحاضرين، وقال: هذا يكفلني ويضمنني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.