فلما كانت الليلة ٣٩٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما أشار إلى أبي ذَرٍّ وقال: هذا يكفلني ويضمنني. قال عمر — رضي الله تعالى عنه: يا أبا ذرٍّ، أسمعتَ هذا الكلام، وتضمن لي حضور هذا الغلام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أضمنه إلى ثلاثة أيام. فرضي بذلك وأذن للغلام في الانصراف، فلما انقضَتْ مدة الإمهال، وكاد وقتها أن يزول أو زال، ولم يحضر الشاب إلى مجلس عمر، والصحابة حوله كالنجوم حول القمر، وأبو ذرٍّ قد حضر، والخصمان ينتظران فقالا: أين الغريم يا أبا ذرٍّ؟ كيف رجوع مَن فرُّوا؟ لكن نحن لا نبرح من مكاننا حتى تأتينا به للأخذ بثأرنا. فقال أبو ذرٍّ: وحق الملك العلَّام، إنِ انقضَتِ الثلاثة أيام، ولم يحضر الغلام، وفَّيْتُ بالضمان وسلَّمْتُ نفسي للإمام. فقال عمر — رضي الله عنه: واللهِ إنْ تأخَّرِ الغلام لَأقضين في أبي ذرٍّ ما اقتضَتْه شريعة الإسلام. فهملَتْ عَبَرات الحاضرين، وارتفعت زفرات الناظرين، وعَظُم الضجيج، فعرض أكابر الصحابة على الشابَّيْن أخْذَ الدية، واغتنام الأَثْنِية، فأبَيَا ولم يقبلَا شيئًا إلا الأخذ بالثأر. فبينما الناس يموجون ويضجون تأسُّفًا على أبي ذرٍّ، إذ أقبَلَ الغلام، ووقف بين يدي الإمام، وسلَّم عليه بأحسن سلام، ووجهه مشرق يتهلَّل، وبالعَرَق يتكلَّل، وقال له: قد أسلمتُ الصبي إلى أخواله، وعرَّفتهم بجميع أحواله، وأطلعتهم على مكان ماله، ثم اقتحمتُ هاجرةَ الحَرِّ، ووفَّيْتُ وفاءَ الحُرِّ. فتعجَّب الناس من صدقه ووفائه، وإقدامه على الموت واجترائه، فقال له بعضهم: ما أكرمك من غلام! وأوفاك بالعهد والزمام! فقال الغلام: أَمَا تحقَّقتم أن الموت إذا حضر لا ينجو منه أحد؟ وإنما وفَّيْتُ كي لا يقال: ذهب الوفاء من الناس. فقال أبو ذرٍّ: والله يا أمير المؤمنين لقد ضمنتُ هذا الغلام ولم أعرفه من أي قوم، ولا رأيتُه قبل ذلك اليوم، ولكن لما أعرض عمَّن حضر وقصدني وقال: هذا يضمنني ويكفلني. لم أستحسن ردَّه، وأَبَتِ المروءة أن تخيِّب قصده؛ إذ ليس في إجابة القصد من بأس، كي لا يقال: ذهب الفضل من الناس. فعند ذلك قال الشابان: يا أمير المؤمنين، قد وهبنا لهذا الشاب دمَ أبينا؛ حيث بدَّل الوحشة بالإيناس، كي لا يقال: ذهب المعروف من الناس. واستبشَرَ الإمام بالعفو عن الغلام، وصِدْقه ووفائه بالذمام، واستكبر مروءة أبي ذرٍّ دون جلسائه، واستحسن اعتماد الشابين في اصطناع المعروف، وأثنى عليهما ثناء الشاكر، وتمثَّل بقول الشاعر:
ثم عرض عليهما أن يصرف إليهما دية أبيهما من بيت المال فقالا: إنما عفونا عنه ابتغاءَ وجه الله الكريم المتعال، ومَن نيَّته كذا لا يُتبِع إحسانَه منًّا ولا أذًى.
حكاية المأمون والأهرام
ومما يُحكَى أن المأمون بن هارون الرشيد لما دخل مصر المحروسة أراد هدم الأهرام ليأخذ ما فيها، فلما حاوَلَ هدمها لم يقدر على ذلك، مع أنه اجتهد في هدمها وأنفق على ذلك أموالًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.