فلما كانت الليلة ٣١٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جوان الكردي قال لأمه: احتفظي عليها حتى أرجع إليك في بُكرة النهار. ثم ذهب، فقالت زمرد في نفسها: وما هذه الغفلة عن خلاص روحي بالحيلة، كيف أصبر إلى أن يجيء هؤلاء الأربعون رجلًا، فيتعاقبون عليَّ حتى يجعلوني كالمركب الغريقة في البحر؟ ثم إنها التفتت إلى العجوز أم جوان الكردي وقالت لها: يا خالتي، أَمَا تقومين بنا إلى خارج الغار حتى أفلِّيك في الشمس؟ فقالت: إي والله يا بنتي، فإن لي مدة وأنا بعيدة عن الحمام؛ لأن هؤلاء الخنازير لم يزالوا دائرين بي من مكان إلى مكان. فخرجت معها فصارت تفلِّيها وتقتل القمل من رأسها إلى أن استلذَّت بذلك ورقدت، فقامت زمرد ولبست ثياب الجندي الذي قتله جوان الكردي، وشدَّت سيفه في وسطها، وتعمَّمَتْ بعمامته حتى صارت كأنها رجل، وركبت الفرس وأخذت الخُرْج الذهب معها، وقالت: يا جميل الستر، استرني بجاه محمد ﷺ. ثم إنها قالت في نفسها: إن رُحْتُ إلى البلد ربما ينظرني أحدٌ من أهل الجندي فلا يحصل لي خير. ثم أعرضَتْ عن دخول المدينة وسارت في البر الأقفر، ولم تزل سائرة بالخُرْج والفرس، وتأكل من نبات الأرض وتطعم الفرس منه، وتشرب من الأنهار مدة عشرة أيام، وفي اليوم الحادي عشر أقبلَتْ على مدينة طيبة أمينة بالخير مكينة، قد ولَّى عنها فصل الشتاء ببرده، وأقبل عليها فصل الربيع بزهره وورده، فزهت أزهارها وتدفَّقت أنهارها، وغرَّدت أطيارها.
فلما وصلت إلى المدينة وقربت من بابها، وجدت العساكر والأمراء وأكابر أهل المدينة، فتعجَّبت لما نظرتهم على هذه الحالة، وقالت في نفسها: إن أهل هذه المدينة كلهم مجتمعون، ولا بد لذلك من سبب. ثم إنها قصدتهم، فلما قربت منهم تسابق إليها العساكر وترجَّلوا وقبَّلوا الأرض بين يديها، وقالوا: الله ينصرك يا مولانا السلطان. واصطفت بين يديها المناصب، فصارت العساكر يرتبون الناس ويقولون: الله ينصرك، ويجعل قدومك مباركًا على المسلمين يا سلطان العالمين، ثبَّتَكَ الله يا ملك الزمان، يا فريد العصر والأوان. فقالت لهم زمرد: ما خبركم يا أهل هذه المدينة؟ فقال الحاجب: إنه أعطاك مَن لا يبخل بالعطاء، وجعلك سلطانًا على هذه المدينة، وحاكمًا على رقاب جميع مَن فيها، واعلم أن عادة أهل هذه المدينة إذا مات ملكهم ولم يكن له ولد، تخرج العساكر إلى ظاهر المدينة ويمكثون ثلاثة أيام، فأي إنسان جاء من طريقك التي جئتَ منها يجعلونه سلطانًا عليهم، والحمد لله الذي ساق لنا إنسانًا من أولاد الترك جميل الوجه، فلو طلع علينا أقل منك كان سلطانًا. وكانت زمرد صاحبة رأي في جميع أفعالها، فقالت: لا تحسبوا أنني من أولاد عامة الأتراك، بل أنا من أولاد الأكابر، لكنني غضبت من أهلي فخرجت من عندهم وتركتهم، وانظروا إلى هذا الخُرْج الذهب الذي جئتُ به تحتي لأتصدَّق منه على الفقراء والمساكين طول الطريق. فدعوا لها وفرحوا بها غاية الفرح، وكذلك زمرد فرحت بهم، ثم قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.